من الصعب على من يقف أمام جامع الخلفاء، ألا يرى بوضوح جمال المئذنة هذه أو لا يلتفت نظره الريازة المعمارية الضخمة والزخرفة الآجرية إلى جانب المقرنصات البديعة التي تكون قاعدة صلدة لارتكاز حوضي المئذنة السفلى والعلوي، لابد أن الريازة تلك هي التي جذبت المصور الألماني، قلت لنفسي، وأنا مغمض العينين أقف أمامها في يوم بارد من يناير/كانون الثاني 2004، الريازة الموجودة فيها أشبه بالنقش العربي أو الأرابيسك، على نفس الطريقة الموجودة فيها في ضريح زمرد خاتون والقصر العباسي والمستنصرية والمدرسة المرجانية في بغداد، أقصد هذه المقرنصات التي تنتشر على الحوضين، الحوض الأول يستند إلى أربعة صفوف تتنوع أشكالها ومستوى بروز رؤوس عقودها، فيما استند الحوض الثاني على ستة صفوف من العقود والحنايا المقرنصة والمتركبة، تشبه مقرنصات الحوض الأول لكنها خالية من الحشوات الزخرفية والتاريخية. ومن يعرف المئذنة قديماً، سواء رآها بعينيه، أم رآها على بطاقة بريدية لمصور ألماني سيحزن بالتأكيد! عجيبة هي الذاكرة، دفعة واحدة استعدت كل شيء في وقفتي تلك، وشكراً للبطاقة البريدية في جيبي، فهي الصورة القديمة هذه التي جعلتني أتردد في فتح عينيّ، لأن واقع الحال يقول لي، لا شيء أمامك له علاقة بالمنارة القديمة كما وصفتها قبل قليل، واقع الحال لا علاقة له بالقيمة التراثية أو بالتاريخ، واقع الحال له علاقة بنفسه، وبما أصبحت المدينة عليه، كل فسحة فيها هي مكان صالح لرمي النفايات والأوساخ، المكان هذا ليس استثناءً، لم يشفع له لا تاريخه ولا هيبة المعمار، المكان وما حوله أصبح مليئاً بالنفايات وببقايا الباعة المتجولين، صورة حزينة بالأحرى، فحتى هذا لم يبق، لأن ما حل بعد حرب القتال على الهوية في بغداد، له علاقة بالموت والدمار الذي أطبق على البلاد جميعاً، وبصورة خاصة على العاصمة بغداد.
صحيح أن سوق الغزل تعرض إلى العديد من الهجمات منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 م، وتجول المارينز في بغداد، إلا أنه ورغم سوء الأحوال الأمنية لم يتوقف من العمل في أيام الجُمع كعادته، حتى أنا ورغم التحذيرات التي سمعتها تثنيني عن الذهاب إلى هناك، زرت السوق وتجولت في بعض محلاته، محلة المسيحيين مثلاً القريبة من السوق العربي الحالي، كما زرت جامع الخلفاء. في حزيران 2006 م، عاش السوق أول انفجار له، عندما انفجرت عبوتان ناسفتان وضعتا في كيسين، أدتا إلى مقتل 4 أشخاص. كان ذلك أول هجوم قام به إرهابيون، أعقبه خمسة هجومات أخرى. في ديسمبر/كانون الأول 2006، قُتل 3 أشخاص نتيجة سقوط قذائف هاون على السوق، في 26 يناير/كانون الثاني 2007، قُتل 15 شخصاً في انفجار قنبلة وُضعت في قفص للطيور، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2007، قُتل 13 شخصاً في هجوم مسلح، ويوم الجمعة 1 فبراير/ شباط 2008، قُتل 47 شخصاً وأُصيب 80 آخرون نتيجة تفجير عبوات ناسفة. وأخيراً الحريق الذي طال السوق مع الحريق الهائل في سوق الشورجة الملاصق له في 6 نوفمبر/تشرين ثاني 2011، الذي استمر مدة أربعة أيام والذي أسفر عن سقوط ضحايا وإصابة العشرات بجروح متفاوتة، ناهيك طبعاً عن الأضرار التي تعرضت فيه محال السوق والبنايات القريبة منها، ومنها طبعاً: مئذنة جامع سوق الغزل، أصلاً مئذنة جامع الخلفاء!
منذ زيارتي الأخيرة لمنارة سوق الغزل، أو منارة جامع الخلفاء، عام 2004، وصورتها تلحّ عليّ كما تقدّمت هي دائماً السوق، مثل نخلة سامقة أو برج فنار، ولكي أعيد الحياة لها، كان لابد لي من اختراع قصتها مجدداً، هذه المرة ليس كما أشاء أو كما شاءه لها الآخرون، بل كما شاءت هي أن تكون!
بين سوق الغزل ومنارته
[post-views]
نشر في: 11 فبراير, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
معرض العراق الدولي للكتاب: بوابة نحو التميز الثقافي والتضامن الإنساني
النفط يتصدر المشهد وتبدلات مفاجئة في ترتيب دوري نجوم العراق بعد الجولة الثامنة
العراق يُطلق منصة لتنظيم العمالة الأجنبية وتعزيز الرقابة الإلكترونية
العراق تحت قبضة الكتلة الباردة: أجواء جافة حتى الاثنين المقبل
ضبط طن مخدرات في الرصافة خلال 10 أشهر
الأكثر قراءة
الرأي
الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!
رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
جميع التعليقات 1
fفارس الجامع
العراق ينحدر الى مشارف الحرب الاهليه والدماء ضمخت الشوارع والفساد ينخر الدوله نخرا والدكتاتوريه تقرع الابواب بعنف وصديقي الفايخ نجم يكتب عن منارة سوق الغزل وربما في مقال جديد سيسلط الاضواء على سوق الكروش في العماره عرب وين طنبوره وين