TOP

جريدة المدى > سينما > عزلة الدراما العراقية.. بين الواقعية والخضوع لما هو سائد

عزلة الدراما العراقية.. بين الواقعية والخضوع لما هو سائد

نشر في: 12 فبراير, 2014: 09:01 م

بدأت الدراما العراقية منتصف الخمسينات، مع انطلاقة تلفزيون بغداد - كأول  تلفزيون عربي-  وكانت واقعية بحتة ، تناولت المشاكل الاجتماعية وهموم الناس البسطاء  وصراعهم ضد الفقر والظلم والقوى المتنفذة في السلطة والمجتمع. وظلت لسنين طويلة محاص

حميدة العربي

بدأت الدراما العراقية منتصف الخمسينات، مع انطلاقة تلفزيون بغداد - كأول  تلفزيون عربي-  وكانت واقعية بحتة ، تناولت المشاكل الاجتماعية وهموم الناس البسطاء  وصراعهم ضد الفقر والظلم والقوى المتنفذة في السلطة والمجتمع. وظلت لسنين طويلة محاصرة في محليتها، فكرا وموضوعا وأسلوبا، لأسباب عديدة لعل أهمها : العزلة التي تفرضها الأنظمة على المجتمع، ما ينتج عنه قلة الاطلاع على الدراما العالمية وسبل تطورها .. باستثناء عرض بعض المسلسلات الأمريكية وأقل منها الأوروبية، بعد أن يعبث بها مقص الرقيب. وأيضا عدم جرأة  القائمين على الدراما على التجديد أو التغيير، ربما لطبيعة الشخصية العراقية المتخوفة من أي تغيير والحذر من أي جديد، إضافة إلى هيمنة مجموعة من الأفراد، دائما، على مجمل النشاطات الفنية واحتكارها  التي تعتقد أن أي تغيير أو تجديد سواء في الوجوه أو تقاليد العمل أو الأساليب سيزعزع مكانتها ويؤثر على وجودها.
وكنتيجة لهكذا ظروف انقسم القائمون على الدراما إلى نوعين، الأول، وهم أقلية، يريدون ويتمنون التغيير إلا انهم لا يجدون الفرصة أو لا يجرؤون على ذلك خوفا من رفض أعمالهم . والنوع الثاني، انتهازيون يسايرون كل الأنظمة ويتماشون  مع كل الأوضاع ومستعدون لقبول وعمل أي شيء ! وهؤلاء في الفن ، كما في بقية المجالات، أشبه بالعصي التي توضع داخل العجلة لعرقلة مسيرتها، وما أكثرهم ، كل ذلك جعل الدراما تراوح في مكانها متمسكة بواقعيتها المفرطة، رغم خشونتها, وملتزمة بمواضيعها، رغم استهلاكها وتقادم رسائلها .. وكان ذلك مناسبا للذائقة العراقية، آنذاك ، الخاضعة لظروف وأفكار مفروضة. وحتى بعد عام 2003 وانفتاح العراق على العالم  وذلك التطور التكنولوجي الهائل وغزو المسلسلات من كافة أنحاء العالم للفضائيات العربية والعراقية، إلا أن الدراما العراقية لم تستفد من ذلك إلا بدرجة  ضئيلة لا تتعدى إدخال تقنيات بسيطة ومشاركة بعض الفنانين العراقيين في أعمال عربية أو مشاركة  بعض الفنانين العرب، مخرجين أو ممثلين، في أعمال عراقية ( وهؤلاء لم يضيفوا شيئا  للدراما العراقية ). لأن هكذا مشاركات تحسب لصالح الفنان كفرد وليس لصالح الدراما كمرفق فني وحضاري .    
في حين استفادت الدراما المصرية والسورية، خصوصا، من الدراما العالمية بشكل واضح سواء على صعيد استلهام واختيار الأفكار والمواضيع والجرأة على طرحها و تنفيذها أو على صعيد الاستفادة من آخر المستجدات التقنية والفنية في الإخراج والتصوير والمونتاج والأداء التمثيلي وغيرها.. وحتى الدراما التركية، التي شغلت غالبية  المشاهدين العرب في السنوات الأخيرة, استفادت من عدة مدارس واتجاهات عالمية، فأخذت من الدراما  الأمريكية ضخامة الإنتاج والفخامة الشكلية والأسلوب الدعائي .. ومن السينما الهندية فبركة القصص والأحداث بطرق ميلودرامية لا تخلو من التشويق والإثارة، ومن الدراما اللاتينية اعتماد الوجوه الجميلة واستعراضها والإيقاع البطيء  في السيناريو والأداء والتقطيع, لإطالة مدة العرض . إلا الدراما العراقية فقد ظلت خاضعة لما هو سائد، و متوارثة  لذات التقاليد والأسس والأساليب القديمة دون تأثير أو تأثر, بل زادت في واقعيتها  وانتهجت في أغلب الأعمال الأسلوب الوثائقي - التسجيلي في الطرح والمعالجة مع غياب واضح للعنصر الفني والجمالي . واعتمدت تلك الأعمال أسلوبا إخراجيا تقليديا خاليا من الابتكار والرؤية الفكرية أو الفلسفية وذات إيقاع بطئ،  ممل - في أغلب الأحيان - وتملؤها حوارات سطحية بعيدة عن لغة الفن والأدب، ما جعل اكثر المسلسلات اقرب إلى البرامج الوثائقية منها إلى الأعمال الدرامية الفنية . ولأن الدراما ، أساسا ، تعتمد على ثلاثة عناصر - أو جهات - رئيسية هي جهة الإنتاج والكتاب والمخرجين ، فاذا كانت هذه الجهات الثلاث تقليدية التوجه ورجعية التفكير ومتخلفة الثقافة الاجتماعية والعلمية فستكون النتيجة أعمالاً هابطة المستوى فنيا ورديئة النوعية فكريا واجتماعيا ،وبالتالي لا تجذب حتى المشاهد البسيط الذي وجد أمامه - الآن - خيارات كثيرة متنوعة على الفضائيات الأخرى فيها الكثير من عوامل الجذب والتشويق التي تفتقدها الدراما العراقية مثل الإنتاج الكبير والقصص الاجتماعية والعاطفية - الرومانسية الخالية من الصراعات العنيفة والوقائع التي تفتح الجروح و تسيل الدموع وتفتقد، أيضا، الكادر( المنظر) الجميل المتناسق الألوان والأبعاد وتفتقد الموسيقى الشاعرية المعبرة وكذلك الوجوه الجذابة الوسيمة والحوارات الهادئة المؤثرة والأزياء الأنيقة المناسبة  والديكورات الملائمة للأحداث والعصر.. وأخيراً و ليس آخراً تفتقد الأداء التمثيلي، الطبيعي العفوي.
  وحاليا تعتبر الفضائيات جهات الإنتاج الوحيدة، تقريبا، وكل منها تعود أو تميل إلى جهة ما، لذا تأتي الأعمال المنتجة  حسب رغبة وإرادة تلك الجهة، وغالبا ما يشرف على الدراما إداريون غير متخصصين ولا علاقة لهم بالفن، يتعاملون مع الدراما كوظيفة رسمية أو عمل إداري يجب تنفيذه بأي شكل من الأشكال بأقل التكاليف .. بما يخدم  أهداف الفضائيات وأصحابها دون الاهتمام بتطور الدراما على الصعيدين الفني والتقني. ويتم التركيز على مواضيع محددة - سياسية على الاكثر - بعيدة عن التمدن والتحضر ومتطلبات العصر، اعادت الافكار الرجعية والعشائرية الى الواجهة، المستهدف الاول فيها، هي المرأة ومكانتها وحقوقها.
 وستظل الدراما العراقية على ذات الركود والتأخر والعزلة ما لم تتخلص من هيمنة الفضائيات والعقليات التقليدية، الذكورية ، والاساليب القديمة في العمل والتعامل .. وتنتهج مسارات حديثة وحرية، في الافكار والانتاج والتنفيذ. والتخفيف من الواقعية والتمرد على ما هو سائد، للالتحاق بالدراما العالمية ومواكبة تطورها، كمساهم فعال وليس كمتفرج، سلبي، وحسب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. د. محسن راضي

    دقة الملاحظات المنهجية والعلمية التي اعتمدتها السيدة الكريمة حميدة العربي في الإخفاقات التي صاحبت الدراما العراقية والتي لايتحملها الفنان العراقي فقط بل الجميع بدا من الإنتاج مرورا بالكاتب والمخرج واخر الأشياء هم الممثلين, وقد وضعت اصبعها على الجرح والاش

  2. حميدة العربي

    أرجو إعادة كتابة اسمي على مقالتي هذه .. مع الشكر والتقدرير

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

السينما كفن كافكاوي

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram