"مِن بَعْد ما فَلّيت ... صرْلي سِني قنديل زَيت.... ضّوَّيت ضَّويت بَعْدَك .. وانطَفيت" رحل شاعر الكلمة المضيئة جوزيف حرب بهدوء، وهو يُطلّ من أعلى تلّة مطلة على البحر، مستحضراً ذكريات سبعين عاماً، بعد أن اعتزل معتكفاً في بلدته الجنوبي
"مِن بَعْد ما فَلّيت ... صرْلي سِني قنديل زَيت.... ضّوَّيت ضَّويت بَعْدَك .. وانطَفيت"
رحل شاعر الكلمة المضيئة جوزيف حرب بهدوء، وهو يُطلّ من أعلى تلّة مطلة على البحر، مستحضراً ذكريات سبعين عاماً، بعد أن اعتزل معتكفاً في بلدته الجنوبية "المعمرية"، منذ ما يقرب من ثماني سنوات مقتنعاً أنّ "أيّ وجود مع الآخرين اليوم، خارج مفهوم الوظيفة، هو نوع من تضييع الوقت"، خلال إقامته الأخيرة وقع في غرام الموج، مُكتشفاً أنه أصل غيوم الخير، رحل جوزيف حرب 1944-2014، تاركاً وطناً عشقه حتى البهجة، وعالماً عربياً يتقافز على فوهة بركان طائفي بامتياز، وهو القائل :سأظل أفتخر أنني عربي.
انطفأ السراج، ومضى شاعرُ أعذب ما غنته فيروز، حبيتك تنسيت النوم، ولما عالباب يا حبيبي منتودع، وورقو الأصفر شهر أيلول، وأسامينا شو تعبوا أهالينا، وإسوارة العروس، وخليك بالبيت، ورح نبقى سوا، ترك بعده فراغاً لن يجرؤ أحد على التفكير بملئه.
لم تتوقف موهبته الفذة عند حدود قصائده باللهجة المحكية، فكانت قصائده الفصيحة تنافسها على الصدارة، ولم يتفرغ لكتابة الجمال شعراً، فانخرط في العمل العام ليرأس اتحاد الكتاب اللبنانيين لأربع سنوات، اتسمت قصائده عن الحب والطفولة بغنائيتها، فكانت ثروة مضافة للفيروزيات، تميزت عن إنتاجات الرحابنة الشعرية، وحملت سفيرة لبنان إلى النجوم، صوب سماوات جديدة مفعمة بالألق والضياء، ولأنه اختار موقعه بين الجماهير الشعبية، كانت قصائده تعبيراً عن وجدانها، كانت غنائيته تتجنب الصوت المتشنج، والإيقاع العصي، ولذلك وصلت لقارئه بسلاسة ويسر، رغم عمقها العميق.
رحل صاحب شجرة الأكاسيا، وهو الممثل الشرعي للروحية اللبنانية دون ادعاء، نهل كلماته من الطبيعة اللبنانية الممزوجة من قسوة الجبل وامتداد البحر، بالفصحى والعامية، تولدت قصائده من رحم البراءة والحلم والجمال، خلّف 16 ديواناً من الجمال، اقتربت فيها التفعيلة من روح النثر، دون توريط لأي منهما بالأخرى، واستثمر تجويده الإيقاعي، لجذب القارئ للبحث عن التقاطات ساطعة الإدهاش، وحادة الذكاء، حتى أن البعض أخذ عليه تلك الحلاوة الزائدة، التي كانت تذوب في كل كلمة أحياناً، لكن ذلك لا يمنع من استكشاف التأملات الفلسفية التي برزت في الكثير من قصائده، ولم تُفسد بعمقها حلاوة القصيدة وجمالها وسهولة وصولها.
"أنا لم أجئْ إلا لقتل الموتِ.. كلٌّ حاملٌ رمحاً ليقتله.. ورمحي ليس ديناري.. ولا إكليل مملكتي.. رمحي دواويني"
هكذا تمثلت خصوصية حرب وقوته في هذه الفلسفة الشعرية، وفي العمل الدؤوب على تخليد العمل اليومي للطبيعة وتعاقب الأيام، وكان اعتكافه في السنوات الأخيرة وسيلته للسكن في إطار مخيلته المتنسكة التصوفية:
"ولكي لا أحدٌ يقرعُ هذا البابَ عليّ.. لا بابَ لديّ".
بلغة كهذه كتب الراحل تجربته الشعرية ساعياً إلى التقاط الجوهري والخالد في اليومي والمهمل مقتربا من العوالم الصغيرة والهامشية :
ليس يموتُ الشعر.. والشعراء لا يدخلون الأضرحه.. لأنهم لم يولدوا بغير أجنحة.
الموت قاعد عالغدا.. وما في حدا عنده نفْس ياكل معه.. أصلاً عَ بُخله، الموت مَ بيعزم حدا
ولكن ولأن لكل قاعدة استثناء، حتى في شعر عظيم كجوزيف حرب، فعلها الموت هذه المرّة، دعا الشاعر إلى مائدته، تردد في القبول، قاوم، ثم قبل، ومشى إلى مصيره.