ثمة تبديل مقصود اليوم لمعاني الأشياء، في الثقافة والسياسة كليهما. التيّار القويّ اليوم، ساخر متهكّم من "العلمانية" و"الممانعة و"المقاومة" و"نظرية المؤامرة" ويشكّ بوجود "الطائفية" إلا في أذهاننا المريضة، ويُحيِّد "إسرائيل" ويُزكِّي "الرجعيات العربية" الراسخة في وعيها وممارساتها، ما الذي يبقى بعد ذلك؟. يقال لنا إن الأمر متعلق بـ "ليبراليين" عرب، مخلصين لليبراليتهم. وهو أمر مشكوك به قليلاً، إذ على الفور يمكن لشريحة ثقافية عريضة أخرى أن تتساءل: ألا يستطيع (الليبراليون العرب الجدد) أن يقاموا الأحزاب الفاشية الدموية والقومانية والسلفية وأن يكونوا في نفس الوقت مع "العلمانية" و"الممانعة و"المقاومة" ولا يستخفوا بـ "الرجعية" أو يشكوا بوجود "الطائفية"، ولا يُحيِّدوا "إسرائيل" أو يزكّوا "الفضائيات العربية"، هذا سؤال حاسم.
ثم توجد فكرة "الشرعية" و"الانتخابات" و"الديمقراطية" التي بلبلت الأذهان الثقافية الليبرالية في بلدين عربيين في الأقلّ، تونس ومصر، بسبب فوز الأحزاب الدينية فيهما. وفيهما شهدنا مواقف في غاية التناقض والمفارَقة. بالنسبة للذين وقفوا طوال حياتهم وما زالوا ضد أيديولوجية الأحزاب السلفية، بكل الوسائل الفكرية والثقافية، وحتى السياسية، يبدو أمر "الديمقراطية" شيئاً آخر، ولا تُفهم "الشرعية" على أنها صك على بياض، بل هي توكيل يعطيه شخص لغيره ليقوم على شؤونه ومن حقه أن يسحبه متى لاحظ أن هذا الذي وكّله غير أمين و لم يعد يستحق ثقته. الخاسرون في أي انتخابات لم يعطوا أصلاً للفائز صكاً: لقد صوتوا ضده!.
ثم الفارق بين "الإعلاميٌّ" و"التحريضيٌّ" اللذين يخلِّط بينهما الليبراليون العرب الجدد أيما تخليط، بل يسعى بعضهم في إدماج المثقف والشاعر بإطارهما المُلتبِس. نعم، الشاعر في قلب المشكلات الكبيرة لعصره، نعم، يتخذ موقفاً إنسانياً وأخلاقياً من المشكلات الجوهرية، لكنه ليس إعلامياً ولا تحريضيا يشتغل لحساب جهة أو دولة أو طرف من أطراف الصراعات. ظهر مسعى هذا الإدماج بشكله القويّ الصريح في المراحل الحاسمة من الصراع السوريّ، ولدى العديد من المثقفين "الليبراليين" السوريين الذين اندفع بعضهم من أقصى المواقف إلى أقصاها دون انتباه. بدا المثقفون العراقيون أكثر تبصُّراً بشان سوريا. فقد عرف الجميع منذ البدء أن غالبية المثقفين العراقيين لم يذهبوا باتجاه الحماسة نفسها التي ركض لها أقرانهم العرب. لقد جرّبوا (اللعبة) نفسها، والتوتر نفسه، وكانت توجد لدى بعضهم الرغبة نفسها (دون إدراك مسؤول عن مآل الأمور لاحقاً) باستدعاء العالم لإسقاط نظام صدام حسين بأي ثمن، ثم اكتشفوا بعد ذلك فقط الخلل في ذاك التوتر وتلك الرغبة المنفلتة. اليوم، اليوم فحسب تظهر عليهم علائم الحكمة بشأن المسار الذي يمكن أن تتخذه الأمور. وكالعادة لا أحد يُصْغي لصوت الحكمة المبحوح.
في اللحظة الحالية التي نكتب بها، فإن مواقف بعض المثقفين "الليبراليين" العرب من داعش والغبراء، وصنائع القاعدة، تمثل كارثة ثقافية، ليس فقط عبر التجاهل وقتاً طويلاً لها، بل في عدم الرغبة تلك وغياب الإرادة بإدراك أن الصراع مرتبط بالعراق ولبنان وجهات إقليمية وعربية.. وتكفيرية. من يعرف، يلوذ بالصمت لكي لا يُتّهم بالخروج عن الجادة المستقيمة المرسومة.
أما عناصر الصراعات وأدواتها فقد ظهر جلياً أن الوعي "الليبرالي" الجديد يعاني من الحَوَل، وهو لا يستطيع رؤية إلا العناصر التي يختارها اختياراً وعمداً، وهنا يتطابق المثقفون الليبراليون العراقيون الجدد مع بعض المثقفين الليبراليين السوريين الجدد تماماً، ذلك أنهم يدينون طرفا واحدا ويغضّون النظر عن أطراف أخرى: يدين البعض العراقيّ الأحزاب الدينية المهيمنة، ولا يدين سلفية القاعدة وأئمة السوء الرسميين في مكان آخر. البعض السوريّ يدين حزب الله بأقسى العبارات ويُخفّف من لهجته إزاء النصرة والقاعدة وتوابعهما. في هذا المنطق الليبراليّ المُسْتحدَث التلفيقيّ، يُوافِق شنّ طبقه.
المثقفون الليبراليون العرب الجدد
[post-views]
نشر في: 14 فبراير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...