أمس، وأنا اتفحص الأشجار حوالي البيت، رأيت براعم التوت قد استعجلت الربيع فتفلتت غضة، يانعة من أسر اللحاء الصخري السميك ، كذلك بانت براعم الرمان إبرية حمراء نارية، كنت سعيداً بالخطى الخضراء الباردة التي يخطوها الربيع داخل بستاني الصغير، فيما ظلت نائمة متثائبة براعم العنب والدفلى والورد الجهنمي والكاردينيا لا تأبه بما في يد الطبيعة من ندى، ثمة أمل في عصابة رأس النهار ، أمل من شمس باردة تنقشع عن ظلال باهتة لينة، لا أغالي إن قلت هي من سيغير عربة الغايات . كان المقص يقلم ما تشابك في الأعالي .
قد يبدو حديث عن الأمل والبراعم الصغيرة محاولة للتفلت من أسر الراهن واليومي المر في بلاد تراجع الأمل في أرديتها، بلاد كل ما فيها موثوق بعربة من الحديد والبارود، يسوسها نفر لا يعرفون وجهتها، أقول قد يبدو حديث كهذا بلا معنى، لكن الروح الشاعرة المجبولة على الآمال، لا تنفك تتفلت من اطواقها، فهي التي أوهمت الرماة والقتلة في حرب الثماني سنوات بان الذي يسكن قطعتي القماش الكاكيتين لا يصلح للموت، وهي التي اندست في دشداشة الجوع والفاقة ضامرة طوال السنوات العشر، غير عابئة بما في يدن الموت من نهايات، وهي ذاتها التي علمت العتمة والظلام والرماد معاني الضوء والنور والاستقامة . أقول هي ذاتها التي ينهكها الأمل اليوم. إذ من غير المعقول ان لا تتوقف طواحين السحق والإذلال والقهر طوال خمسين عاماً التي انقضت .
لا تصمد الآمال في روحي طويلاً، لست مناضلا في فريق سياسي، ولا ينبغي لي أن أركب فرس دون كيشوت لأصارع الخيبات، أنا شاعر حسب، لي من الشبابيك أوسعها، ولي من الضوء أعطره، ولا ينبغي لي أن أخلق كي أدافع عن قرية ظل الحكام يسقطون أشجارها، ولا قدرة لي على استرداد الظلال التي تنكمش يوما إثر آخر ، لا ،ما خلقت لهذه، انا قميص من فرح وضوء، أزرره على الينابيع التي حولي، الينابيع التي أضن بها على المردة والقرود والغيلان.
ولهذا فقدت الأمل بحلول كونية في الحيلولة دون صعود الماء المالح داخل صنابير المياه في بيتي، فقدتها في عودة غابة النخل الخصيبية الى ما كانت عليه قبل نحو من عشرة أعوام، فقدت الإحساس بخلاص من الغبار والشمس المحرقة من خلال كهرباء لا تُستقطع منّي، فقدت معاني حياتي من خلال أشياء اخرى تراجعت أهميتها بسبب من استمراء لفقدانها . أقول لم يعد الحديث في حشد الآمال المستحيلة يجدي نفعاً، هناك تجاهل مريع للحلم، نفور من كل ما يجعل الحياة ممكنة، هنالك توحد وشعور بالفردانية بات يسوّق على انه الخلاص مما لا يجب الخلاص منه، وكما لو انَّ الخراب الذي يلف الأبدية من حولي لا علاقة للدولة به.
هو صوت المقص: قلتُ، هذا الذي تسمعه، أنا اقلم أشجار التوت يا بني، انت تقص الغصون: يقول، وهو ينظر ليدي وهي تمعن في تشذيب النهايات المتشابكة، لكنه حين أيقن بان المقص عارض في حياة الأشجار، لا يقربها الا في الربيع، وشتيمته انه يصنع من الغصون المتشابكة اقلاماً تُغرس لتصبح أشجاراً ستقف وتصطف في ما بعد، لتعلن عن بداية موسم جديد، وهو ديدن كل ذي حياة قال : إنك غارس آمال كبير يا ابي، قلت لا يابني ما أنا بغارس لها، أنا واهم كبير .
ولأن الشاعر لا يني يفكر في لملمة خلاصه، فقد أدرك أنْ لا بدَّ من نسيان ما يمكن نسيانه، وهجران ما بقدوره هجرانه، وهكذا راح يضيق من دائرة المعارف من حوله، فكان النهرُ آخر جلاسه الأمناء، وكانت كأسه الأصفى بين الندمان والأصدقاء، وسوى من خطاطات لا يتخذ من الكتب والأوراق.. وقد سرَّه أن أبناءه وأحفاده أدركوا متأخرين حاجته للشعر والخمر والنهايات السعيدة .
نهايات سعيدة
[post-views]
نشر في: 15 فبراير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...