TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > طُرواديو بيرليوز

طُرواديو بيرليوز

نشر في: 16 فبراير, 2014: 09:01 م

بيرليوز (1803 ـ 1869)، الرومانتيكي الفرنسي، الذي عاش حياة عاطفية عاصفة، وشغل نفسه والناسَ، لم يفلت، شأن كثيرين، من إجحاف التاريخ وغفلته. فقد بقيت أوبراه "الطرواديون" مخطوطة في كراريسها الموسيقية على مرأى ومسمع من الحياة الموسيقية الكلاسيكية الغربية الصاخبة. سيمفونيته "الفانتازية" تتردد أصداؤها في كل ركن، ودون انقطاع، وكذا الأمر مع أعماله الأخرى التي لا تقل شهرة: "روميو وجوليت"، "لعنة فاوست"، "هارولد في إيطاليا"، و "طفولة المسيح". وكل واحدة منها تحفة عزيزة في الموروث الموسيقي.
أمام هذا العرض الأخاذ الذي أشاهده على DVD، والذي قدمته "دار الأوبرا الملكية" في "الكوفن غاردن" العام الماضي، تشعر بأن هذه الأوبرا تستعيد عافيتها، ومكانتها التي تستحقها.
الأوبرا رائعة، بل مدهشة، والنص الشعري الذي أعده بيرليوز نفسه عن ملحمة فيرجل "الإنيادة"، أعطى العمل الموسيقي مدىً ملحمياً غايةً في تشعب الدلالات الرمزية. كان بيرليوز شديد التعلق بشعر الملحمة منذ تعلم اللاتينية في صباه على يد أبيه. وفي مرحلة النضج ظل يتحين فرصةَ هدوء من فورة مشاعره، التي لا تخلو من عتمةٍ والتباس، لكي ينصرفَ إلى "فيرجل" الذي يحبه، ولم يُتحْ له ذلك إلا في أواخر العمر، حين حصل على تكليف من عشيقة الموسيقى "فرانس ليست" الأميرة كارولين فيتجينستاين، فدفع نفسه في موج الملحمة الصخاب وأنجز عمله في سنتين.
الأوبرا في فصول خمسة، تتحدث عن حصار طروادة وتدميرها على يد اليونانيين. ثم عن هرب "إنياس بن بريام" ملك طروادة، وتجواله البحري ولجوئه إلى قرطاج، حيث الملكة المدحورة المستوحشة "ديدو"، التي أعانها على أعدائها، وأحبا بعضاً حباً عاصفا. إلا انه سرعان ما اضطر إلى هجرها، مأخوذاً بنداء باطني باتجاه إيطاليا. لأن القدر شاء ان يُلقي عليه مهمة بناء "روما" وتأسيس إمبراطوريتها. هذا الهجران دفع بـ"ديدو" إلى الانتحار، الأمر الذي شكل واحدةً من قصص الحب الخالدة، التي لم تتوقف الموسيقى عن استلهامها يوما.
حين أكمل بيرليوز "الطرواديون" لم تقبلها دار الأوبرا في باريس. المسرح الكوميدي الأقل شأنا قبلها بشرط أن تُقسّم، بسبب طولها، إلى قسمين: "حصار طروادة" و"الطرواديون في قرطاج". ولقد قبل بيرليوز بهذا الشرط اضطراراً، رغبة منه في أن يسمع شيئاً منها قبل وفاته. إن التعلق الشديد من قبل بيرليوز بالشاعر الروماني الملحمي "فيرجل" يجاذبه تعلقٌ آخر، لا يقلّ شدةً، بالشاعر الدرامي شكسبير. ولم تكن حكاية بطل "السيمفونية الفانتازية" إلا حكاية هاملتية تعكس تجربة حب مستلَبة. وفي هذه الأوبرا تتجاذب قوتا الملحمة والدراما مع بعض، وقوتا السكينة مع فورة الانفعال، وكذا قوتا السلام والحرب بصورة متواترة.إن الفصل الرابع موسيقى خالصة للحب من "إنياس" و"ديدو"، وخاصة في المشهد الذي يتواصل فيه اللحن الخماسي، الذي يصبح سداسياً ثم ثنائياً بين العاشقين.
في الفصلين الأول والثاني تتم الأحداث على أرض طروادة. والبطلة الرئيسية، إلى جانب "إنياس"، هي أخته "كاسندرا"، التي ملأت الفصل الأول بهواجسها النبوئية المريعة. فهي وحدها التي لم تأمنْ انسحابَ اليونانيين عن حصار المدينة، تاركين وراءهم حصانهم الخشبي الكبير المثير للريبة. والفصول الثلاثة المتبقية تتم على أرض "قرطاج".
فضلت أن أصغي إلى الأوبرا في ليلتين متتاليتين، لكي أأمن وطأة الجهد الذي يمكن أن تخلّفه أوبرا على هذا القدْر من الضخامة، تمتد إلى أكثر من ساعات أربع. ضخامة بصرية تُضاف إلى الضخامة السمعية. فالموسيقى تنبش في المشاعر المحتدمة. وطبقاتُ المغنين الصوتية بالغةُ العدد والتنوع (4 تينور ـ 3 باريتون ـ 6 باص ـ 4 ميتسو سوبرانو ـ 1 آلتو). وضخامةُ الإخراج المسرحي تفوق المخيلة، خاصة بمشهد الحصان الذي يغطي أفق المدينة المحاصرة بالروْع والفزع. (يمكن الحصول على تفاصيل هذا الإنجاز في موقع Royal Opera House).
إن طموح "إنياس" باتجاه إيطاليا، لبناء مدينة المستقبل "روما"، يشدّ الأوبرا باتجاه جاذبيةٍ قدريةٍ ملهمة، ولكنها مضمّخةٌ بالدم والآلام والأنانية أيضا. فقد خلّف وراءه طروادةَ المبادة، وبعدها خلّف قلب ديدو المحبة في قرطاج نهباً لليأس والموت. ولكن هل تَرفع الموسيقى إلى الذرى غير الآلام الكبيرة؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram