شهدت صالات العرض السينمائية في الآونة الأخيرة عروضا سينمائية أمريكية بطابع جديد على المستوى الفني والمضمون حصدت جوائز مهمة وترشحت للأوسكار، ومن الملفت للانتباه إن تلك الأفلام تجمعها مشتركات مضامين اجتماعية بإيقاع متلاحق وطابع كوميديا سوداء عن قصص حقي
شهدت صالات العرض السينمائية في الآونة الأخيرة عروضا سينمائية أمريكية بطابع جديد على المستوى الفني والمضمون حصدت جوائز مهمة وترشحت للأوسكار، ومن الملفت للانتباه إن تلك الأفلام تجمعها مشتركات مضامين اجتماعية بإيقاع متلاحق وطابع كوميديا سوداء عن قصص حقيقية ، كأن هذا الأسلوب قد استهوى المخرجين والممثلين الكبار والنقاد والجمهور أيضا ،من أهم هذه الأفلام "ذئب وول ستريت" لمارتن سكورسيزي ،"ياسمين ازرق" لوودي ألن ،"الاحتيال الأمريكي " لديفيد أو راسل،وغيرها.. كشفت تلك الأفلام عن بؤس اجتماعي وسلوكيات تفضح زيف فكرة الحلم الأمريكي وأوهام الأمة الأمريكية بأسلوب ساخر وقاس وكأنها صنعت بقصد محاولة جلد الذات للتخلص من عقدة الوقوع في الخديعة المغلفة بالبطولات الزائفة ،وقد تشكل مع أفلام أخرى أحد تيارات السينما الجديدة ربما يتزعمها مخرجون مميزون يبغون التطهر من خطايا السياسيين الأمريكيين ليردوا بالضد على مواضيع أفلام ترشحت أو فازت في أوسكار العام الماضي مثل "آرجو" لبن افليك و" لنكولن " لسبيلبرغ التي مجدت الماضي، في الواقع ذهبت هذه الأفلام إلى أعماق التركيبة الاجتماعية والسياسية الأمريكية ولم تتعكز في وصف الأحداث على أيدي أبطال تاريخيين بل أظهرتهم مخادعين ومحتالين أو مغفلين و كذابين ،حيث تغيب نظرة الإعجاب عن تلك الشخصيات(السوبرمانية ) وتحل محلها السخرية القاسية وفي أحسن الأحوال العطف على شخصيات مغلوبة بعد سقوطها المدوي ..ربما هي محاولة ذكية لنقل نظرة الإعجاب إلى المخرج –المؤلف الذي أراد أن يفضح ذلك الزيف كنوع للتطهر من الخطايا..
"الاحتيال الأمريكي" (American Hustle) للمخرج الأمريكي ديفيد أو راسل مقتبس من وقائع حقيقية عن فضيحة " أبسكام" السياسية التي جرت تفاصيلها في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات وهي العملية السرية التي حاك خيوطها مكتب التحقيقات الفيدرالية للإيقاع ببعض العناصر الفاسدة في الكونجرس وولاية نيوجرسي من خلال خديعة مفبركة سميت أبساكم وهي مختصر لعبارة ( الخديعة العربية )، وقد جاءت هذه التسمية على خلفية استخدام المباحث الفيدرالية أمراء عرب مزيفين يرغبون باستثمارات في أمريكا ومنحهم الجنسية الأمريكية بأساليب غير شرعية مقابل رشاوى تدفع لأشخاص مهمين في الحكومة والكونجرس ويتم تصويرهم متلبسين بالرشوة والفساد ، اختار راسل عددا ممتازا من الممثلين ليتناسب أداؤهم مع حجم القضية (موضوع التطهير ) كريستيان بال ،برادلي كوبر ،أمي آدمز ،جنيفر لورنس ،روبرت دي نيرو،سعيد التغماوي ،جرمي رنر ..وغيرهم ...سيناريو الفيلم كتب بأسلوب درامي وليس وثائقي حيث اعتمد الفضيحة كموضوع لكشف العلاقات وتشابكها وتسليط الضوء على ضياع الأفراد وزجهم في ممارسة سلوكيات وأعمال غير نابعة من اختياراتهم طوعا مما يسبب ارتباكا وضياعا في علاقاتهم الأسرية والعاطفية ليؤكد من خلال الفيلم على كذبة العالم الحر ووهم الحرية الفردية ، "إرڤينج روزنفلد " (كريستيان بال) صاحب ورشة غسيل للملابس يتعرف على امرأة جميلة "سيدني بروسر" (آمي أدامز) يتعلقان يبعضهما ويلجان عالم الاحتيال في مجال التزييف والخداع والنصب على الزبائن لكنهما يقعان بيد العميل الفيدرالي "ريتشي ديماسوا "(برادلي كوبر) ليجبرهما في التعاون معه للإيقاع بشخصيات مهمة في الكونغرس عبر توريطهما بعلاقات فساد سياسي ومالي من خلال شركة وهمية يديرها عرب ،خلال تلك الترتيبات يتم الكشف عن اضطراب العلاقات حيث تكتشف سيدني ان ارفنج متزوج من"روزالين" (جنيفر لورنس) وله طفل لكن زوجته تعاني من إهماله لها ،ويبدي ريتشي إعجابا وتعلقا بسيدني رغم ان له خطيبة ،وتميل روزالين أيضا لأحد رجال الطبقة المخملية ، تحاول سيدني إقناع ارفينج للهروب من تلك الورطة إلا انه لا يوافقها بسبب حبه لولده مما يضطرها لتجاري ريتشي العميل الفيدرالي ويعاني ريتشي هو الآخر من تحكم المسؤول عنه في مكتب التحقيقات ويؤخر له احتياجاته لنجاح المهمة ،ويجد نفسه انه أمام عملاق مافيوي "ڤكتور تلـِيو" (روبرت دي نيرو) يصعب السيطرة عليه وكشفه بدون ترتيبات محكمة ،ينتهي الأمر بتصوير المفسدين والقبض عليهم متلبسين ،كما تنفرط تلك العلاقات الاجتماعية القديمة لتتشكل علاقات بديلة على عللها بين الأبطال ،في الوقت الذي نسمع فيه الفرح الهستيري لريتشي ومجموعته لنجاح المهمة على صدى صراخ وبكاء أسر المقبوض عليهم ..
الوثيقة التي اعتمدها ديفيد أو راسل هي وقائع معروفة ،وبالنتيجة لم يكشف عن شيء جديد في الأحداث، والأمر واضح بالنسبة له ،فالفيلم لم يركز على الجانب السياسي إلا انه أراد ان يقدم معالجة درامية للعلاقات الأمريكية في هيكل الدولة والجسم الاجتماعي ,فالخداع والاحتيال والفشل العائلي كان واضحا في بنية الفيلم واستغلاله من قبل المباحث الفيدرالية لم يكن مبنيا على وعي وطني أو أخلاقي بل لغرض اصطياد عدد من الشخصيات المهمة لتحقيق نجاح شخصي في مؤسسة لا تحتفظ بقوتها إلا بنصب الشراك، ومن هنا تمكن راسل من الولوج إلى تفاصيل حياة الأشخاص وعواطفهم وترددهم وتورطهم وهروبهم وقناعاتهم البسيطة والساذجة أحيانا بطابع كوميدي خفيف جدا وبمحتوى مأساوي ، قدم راسل فيلما مميزا قبل هذا الفيلم Silver Linings Playbook)) 2012 اتسم بطابع رومانسي هادئ فيلمه الأخير كان أكثر حيوية وتميز بسرعة الإيقاع بسبب أحداثه المتلاحقه وتعدد الشخصيات,قدم الممثلون إبداعا مميزا بشكل متوازن ، الانفعالات ،الصراع العائلي ،هواجس الخوف والتردد ،اللهاث المستمر ، مواجهة أكاذيب بعضهم ،شكّل الجميع نسيجا متماسكا في الفيلم وليس ثمة بطولة فردية في الأداء. وعلى الرغم من ظهور دينيرو لأقل من عشر دقائق في الفيلم إلا انه كان مبدعا في ذلك المشهد المثير في جلسة الاتفاق مع المستثمر العربي، حصل الفيلم على سبعة ترشيحات جولدن جلوب ،وتوّج بجائزة نقاد رابطة نيويورك كأفضل فيلم وأفضل سيناريو وحوار، ومن المتوقع أن يحصد نصيب الأسد من جوائز الأوسكار.