TOP

جريدة المدى > عام > أُنسي الحاج.. (الأنقى) و فيلسوف النثر

أُنسي الحاج.. (الأنقى) و فيلسوف النثر

نشر في: 21 فبراير, 2014: 09:01 م

شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر إلى خطاياه !   غيّب الموت في بيروت يوم الثلاثاء الماضي الثامن عشر من الشهر الجاري ، الصحافي و الاديب و الشاعر اللبناني أنسي الحاج عن عمر يناهز الـ77 عاما" ، بعد صراع مع المرض كان قد اقعده منذ نحو شهرين ، دخل خلا

شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر إلى خطاياه !

 

غيّب الموت في بيروت يوم الثلاثاء الماضي الثامن عشر من الشهر الجاري ، الصحافي و الاديب و الشاعر اللبناني أنسي الحاج عن عمر يناهز الـ77 عاما" ، بعد صراع مع المرض كان قد اقعده منذ نحو شهرين ، دخل خلالهما في غيبوبة 0 لا أريد أن أذكر لمحة تعريفية بشخصيته و نتاجاته ، فشخصيته أنيقة الروح ، و مجموعاته الشعرية الست ، ضاجة بمناكفات الروح التي تستعين بصبرها في الانتقال من زهرة شعرية الى أخرى في الكشف و التجديد و الإبداع ، و كذلك في معرفة هوى الروح الذي لا يستقيم إلا مع شوارد صوره المتوزعة على الاستزادة من جهة ، و من جهة أخرى إبداء المشورة و عرض المثال بلا مقابل 0

 

نقل الى العربية منذ 1963 اكثر من عشر مسرحيات لشكسبير و يونيسكو و دورنمات و كامو و بريخت و سواهم ، و قد مثلتها فرق 

مدرسة التمثيل الحديث ( مهرجانات بعلبك ) ، و نضال الاشقر و روجيه عساف و شكيب خوري و برج فازليان0
و إذا كان نزار قباني ، كشاف جسد المرأة ، فإن أنسي الحاج ، هو الراصد لعقل المرأة ، راصدا" و منقبا" في أمواج تفكيرها ، بأدوات الفكر و الفلسفة عندما يقول : الفلاسفة نقموا اكثر من الادباء ، الكلاسيكيين على المرأة ، ( توما الاكويني ) ، ( اغوسطنيوس ) ، ( شونبهاور) ، ( المانويون ) ، و حتى ( هيفل ( في الحقبة المعاصرة و ان بدرجة اخف .. بعيدا" من النقمة ( العقائدية ) ترتدي النقمة على المرأة قناع البغض او الاحتقار ، و لكن مضمونها الباطني يكون احيانا" هو الحب . 
هذه النقمة هي خيبة الامل ، اليقظة المرة من الحلم مثلي الاكبر على ذلك هو ( بودلير ) ..ألم يقل احد ضد المرأة أعنف مما قال ؟ ، و مع هذا يظل ( بودلير ) نفسه صاحب هذه الكلمة الرائعة : ( المرأة هي الكائن الذي يرمي اكبر ظل ، او اكبر نور في احلامنا ). 
و في معرض سؤال طُرح عليه .. عن الإشفاق على النفس ، قال ، شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر الى خطاياه ! . 
أنسي الحاج و فيروز 
شارك أنسي الحاج في الحركة الفنية في لبنان ، عبر تعاونه مع الأخوين رحباني حيث تعرفا عليه في عام 1963 ، بعدما كتب مقالا" عن فيروز جاء فيه : فيروز صوتٌ يخترقُ دروعَ اللامبالاة ، يبكّت ضميرَ الهزء ، يطهّر النفس كما يطهّرها البكاء لا العقاب ، محبّةُ الطفل لا مهادنة العدوّ . 
هذه السلطة الأخلاقيّة ليس مثلها لفلسفة و لا لتعليم ، ربّما مثلها في شواهد خارقة ، لا تُحبّ فيروز أن يُقال عنها ( أسطورة ) أو ( أيقونة ) ، كان عاصي يلقّبها بـ ( البطرك ) إشارة إلى المهابة و لم تضحك لهذه المداعبة تكره التحنيط ، تكره المصطلحات ، تريد أن تتأكّد من حيويّة فنّها كلّ لحظة .
عندما تسمع أغانيها الأولى تبتسم بتأثّر قائلة ( يا الله هديك البنت ! ) تتعجّب لها ، كما لو أنّها مغنّية أخرى . 
تجتاز أعمارها باضطرام و هدوء معاً ، كما لو أنّها وُلدت الآن . 
لكنّها في الواقع غداً ستولد ، الحفلة المقبلة هي الأولى . 
تحبّ ماضيها الفنّي و لا تتجمّد عنده ، لا يوقف حلمها شيء . 
حلمٌ مُطْلَق ، حلم بمَ ؟ توقٌ إلى مَ ؟ ( أنا عندي حنين/ ما بعرف لمين ) ، و الجميل ، المؤلم الجميل ، أنْ لا تَعْرف . 
كل يوم ينبثق الفجر و يكتفي الزمن بدورته الرتيبة ، إلّا فجر الفنّان ، أمسه غير يومه و يومه غير غده ، هذا المجهول هو الحبيب .
هذا الخيال هو الذي يهفو إليه الشوق ، هذا الجزء هو المبحوث عنه دون كَلَل ، الجزء الناقص للكمال ، فقط هذا ، فقط بعدُ هذا ، هذا هو ! بلى ، هو ! وجدتُه ! و جدتُه ! ( كأنّها ) وَجَدَتْهُ. 
لم يكن إلّا دَرَجة أخرى في السلّم ، طيّبة هذه اللحظة ، شكراً للّه ! شكراً أيّها اللحن ، أيّها الشعر ، أيّها الجمهور الحبيب ! شكراً يا ربّي على نجاحي ! على صوتي ! على أصدقائي ! يا إلهي ما أكرمك ! و لكنْ ، و لكنْ ، لمَ أقفرت الصالة بعد الحفلة ؟ أين راحوا ؟ ( متل الحلم راحوا ) .
و أنا أرجع الآن إلى العزلة ، الانتظار ، التحرُّق على هذا اللعين الذي لا يزال ناقصاً ! هَبْني يا ربّ فرصةً جديدة علّني أجده فأرتاح ! أرتاح ! يا إلهي ! ...
ولن تَجِديه يا فيروز ، حُلمكِ يحفرُ فيكِ كما يحفر النهرُ العظيم في الأرض ، رُوحُكِ عَطّشها اللّه لتظلّ تضيء شموعَها الرائعة على طريق الرجاء. 
نهرٌ هادرٌ و عطشان : هذا هو عذابُ الموهبة . 
البيان الأول لقصيدة النثر 
في بيانه الأول حول قصيدة النثر ، الذي جاء في مقدمة ديوانه الأول ( لن ) ، كتب : هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة ؟ النثر محلول و مرخي و مبسوط كالكف ، و ليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه . 
طبيعة النثر مرسلة ، و أهدافه إخبارية أوبرهانية ، إنه ذو هدف زمني ، و طبيعة القصيدة شيء ضد .
القصيدة عالم مغلق ، مكتف بنفسه ، ذو وحدة كلية في التأثير ، و لا غاية زمنية للقصيدة .
النثر سرد ، و الشعر توتر ، و القصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير ، النثر يتوجه إلى شيء ، يخاطب و كل سلاح خطابي قابل له . 
النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة ، و التوسع ، و الاستطراد ، و الشرح ، و الدوران ، و الاجتهاد الواعي- بمعناه العريض – و يلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع .
الشعر يترك هذه المشاغل : الوعظ و الإخبار و الحجة و البرهان ، ليسبق . 
إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا" في النفس ، أقل تورطا" في الزمن الموقت و القيمة العابرة ، أكثر ما تكون امتلاكا" للقارئ ، تحريرا له ، و انطلاقا به ، بأكثر ما يكون من الإشراق و الإيحاء و التوتر .
أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه . القصيدة ، لتصبح هكذا ، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها و إنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها و تكريرها ، و شد حزمتها . 
القصيدة ، لا الشعر ، هي الشاعر .
القصيدة ، لا الشعر ، هي العالم الذي يسعى الشاعر ، بشعره ، إلى خلقه . 
قد يكون في ديوان ما شعر رائع و لا يكون فيه قصيدتان ، بل يكون كله قصيدة واحدة ، فالقصيدة ، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه ، هي الصعبة البناء على تراب النثر ، و هو المنفلش و المنفتح و المرسل ، و ليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه ، فالنثر منذ أقدم العصور و في مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا" إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه .
شهادات بحق أنسي الحاج 
هذه الشهادات قيلت و كُتبت قبل رحيله _ أثناء غيبوتبه المرضية – ، و كذلك بعد رحيله : 
أدونيس : أنه الأنقى بيننا ! . 
عباس بيضون : لقد وجدت القصيدة انها متلألئة في السماء . ملموسة و بارزة و لا تحتاج إلا لمن يعيد تركيبها ، إنها موجودة داخل الجسد و داخل النفس ، و ها هو يغمض عينيه و يجدها . يغمض عينيه ويتابع الصراع ، يغمض عينيه و يعمل ، يعمل بصمت ، يعمل في نومه ، يرى القصيدة و يجمعها ، تأتيه الكلمات طوع يده و هو لا يفعل سوى أن يثبتها في أماكنها . 
إنه يراها ، يحلم بها ، فهو يعمل حتى في نومه ، و حين يستيقظ سنرى القصيدة في عينيه ، حين يصحو و يخرج من الغرفة سنرى القصيدة فيه ، سيكون هو القصيدة .
4
عبدالقادر الجنابي : إنها الرسالة التحررية لشعر أنسي الحاج الخالي من اي تلميح ايديولوجي ، تكمن ، من جهة ، في انه وضع توجهاً شعرياً كلاسيكي المنحى كان سائداً ، على الرف ، مرة و إلى الأبد . 
و من الجهة الأخرى ، في قدرته على زج اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن الى صور تسمعها العين .
جرجس شكري : لهذا أقرأ شعر أنسي الحاج في صمت ، و لا أناقش الآخرين حوله ، لا أتحدث مع أحد عن شعره ، و كأنه طقس سري ممتع ، أتامله ، أفكر في هذه السطور و في قسوة المعنى ، أهمس لنفسي بكلام أنساه بعد لحظات و أقول لي : لا تكتب عن أنسي الحاج ، ولا تتحدث عنه ، احفظه كمحبة لا تسقط أبداً .
بول شاوول : ... طويلاً و رحلتَ و يا لجلجلة الوجع يا أنسي . و طويلاً كنّا معاً ، أكثر من عمر ، و أكثر من ميلاد . 
و أكثر من ميتات و رجوع ، و أكثر من شِعر ، و أكثر من درب . 
و أكثر من صداقة ، خمسة و أربعون عاماً يا أنسي، معاً ، و كأننا نوازي نهراً لا نعرفه ، و سماء غامضة ، و أقداراً لا تُحسب لنا ، و أرصفة تغير أسماءها . 
و مدينة كلّما مشت مشينا ومشيناها ، و كلما توقفت أصاب حواسنا الحنين ، أصاب أقدامنا الوقوف بلا إشارات . . . و لا قبعات و لا مفترقات كأنما باتت الحياة طريقاً واحدة ضلّ حُرّاسها طويلاً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram