شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر إلى خطاياه ! غيّب الموت في بيروت يوم الثلاثاء الماضي الثامن عشر من الشهر الجاري ، الصحافي و الاديب و الشاعر اللبناني أنسي الحاج عن عمر يناهز الـ77 عاما" ، بعد صراع مع المرض كان قد اقعده منذ نحو شهرين ، دخل خلا
شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر إلى خطاياه !
غيّب الموت في بيروت يوم الثلاثاء الماضي الثامن عشر من الشهر الجاري ، الصحافي و الاديب و الشاعر اللبناني أنسي الحاج عن عمر يناهز الـ77 عاما" ، بعد صراع مع المرض كان قد اقعده منذ نحو شهرين ، دخل خلالهما في غيبوبة 0 لا أريد أن أذكر لمحة تعريفية بشخصيته و نتاجاته ، فشخصيته أنيقة الروح ، و مجموعاته الشعرية الست ، ضاجة بمناكفات الروح التي تستعين بصبرها في الانتقال من زهرة شعرية الى أخرى في الكشف و التجديد و الإبداع ، و كذلك في معرفة هوى الروح الذي لا يستقيم إلا مع شوارد صوره المتوزعة على الاستزادة من جهة ، و من جهة أخرى إبداء المشورة و عرض المثال بلا مقابل 0
نقل الى العربية منذ 1963 اكثر من عشر مسرحيات لشكسبير و يونيسكو و دورنمات و كامو و بريخت و سواهم ، و قد مثلتها فرق
مدرسة التمثيل الحديث ( مهرجانات بعلبك ) ، و نضال الاشقر و روجيه عساف و شكيب خوري و برج فازليان0
و إذا كان نزار قباني ، كشاف جسد المرأة ، فإن أنسي الحاج ، هو الراصد لعقل المرأة ، راصدا" و منقبا" في أمواج تفكيرها ، بأدوات الفكر و الفلسفة عندما يقول : الفلاسفة نقموا اكثر من الادباء ، الكلاسيكيين على المرأة ، ( توما الاكويني ) ، ( اغوسطنيوس ) ، ( شونبهاور) ، ( المانويون ) ، و حتى ( هيفل ( في الحقبة المعاصرة و ان بدرجة اخف .. بعيدا" من النقمة ( العقائدية ) ترتدي النقمة على المرأة قناع البغض او الاحتقار ، و لكن مضمونها الباطني يكون احيانا" هو الحب .
هذه النقمة هي خيبة الامل ، اليقظة المرة من الحلم مثلي الاكبر على ذلك هو ( بودلير ) ..ألم يقل احد ضد المرأة أعنف مما قال ؟ ، و مع هذا يظل ( بودلير ) نفسه صاحب هذه الكلمة الرائعة : ( المرأة هي الكائن الذي يرمي اكبر ظل ، او اكبر نور في احلامنا ).
و في معرض سؤال طُرح عليه .. عن الإشفاق على النفس ، قال ، شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر الى خطاياه ! .
أنسي الحاج و فيروز
شارك أنسي الحاج في الحركة الفنية في لبنان ، عبر تعاونه مع الأخوين رحباني حيث تعرفا عليه في عام 1963 ، بعدما كتب مقالا" عن فيروز جاء فيه : فيروز صوتٌ يخترقُ دروعَ اللامبالاة ، يبكّت ضميرَ الهزء ، يطهّر النفس كما يطهّرها البكاء لا العقاب ، محبّةُ الطفل لا مهادنة العدوّ .
هذه السلطة الأخلاقيّة ليس مثلها لفلسفة و لا لتعليم ، ربّما مثلها في شواهد خارقة ، لا تُحبّ فيروز أن يُقال عنها ( أسطورة ) أو ( أيقونة ) ، كان عاصي يلقّبها بـ ( البطرك ) إشارة إلى المهابة و لم تضحك لهذه المداعبة تكره التحنيط ، تكره المصطلحات ، تريد أن تتأكّد من حيويّة فنّها كلّ لحظة .
عندما تسمع أغانيها الأولى تبتسم بتأثّر قائلة ( يا الله هديك البنت ! ) تتعجّب لها ، كما لو أنّها مغنّية أخرى .
تجتاز أعمارها باضطرام و هدوء معاً ، كما لو أنّها وُلدت الآن .
لكنّها في الواقع غداً ستولد ، الحفلة المقبلة هي الأولى .
تحبّ ماضيها الفنّي و لا تتجمّد عنده ، لا يوقف حلمها شيء .
حلمٌ مُطْلَق ، حلم بمَ ؟ توقٌ إلى مَ ؟ ( أنا عندي حنين/ ما بعرف لمين ) ، و الجميل ، المؤلم الجميل ، أنْ لا تَعْرف .
كل يوم ينبثق الفجر و يكتفي الزمن بدورته الرتيبة ، إلّا فجر الفنّان ، أمسه غير يومه و يومه غير غده ، هذا المجهول هو الحبيب .
هذا الخيال هو الذي يهفو إليه الشوق ، هذا الجزء هو المبحوث عنه دون كَلَل ، الجزء الناقص للكمال ، فقط هذا ، فقط بعدُ هذا ، هذا هو ! بلى ، هو ! وجدتُه ! و جدتُه ! ( كأنّها ) وَجَدَتْهُ.
لم يكن إلّا دَرَجة أخرى في السلّم ، طيّبة هذه اللحظة ، شكراً للّه ! شكراً أيّها اللحن ، أيّها الشعر ، أيّها الجمهور الحبيب ! شكراً يا ربّي على نجاحي ! على صوتي ! على أصدقائي ! يا إلهي ما أكرمك ! و لكنْ ، و لكنْ ، لمَ أقفرت الصالة بعد الحفلة ؟ أين راحوا ؟ ( متل الحلم راحوا ) .
و أنا أرجع الآن إلى العزلة ، الانتظار ، التحرُّق على هذا اللعين الذي لا يزال ناقصاً ! هَبْني يا ربّ فرصةً جديدة علّني أجده فأرتاح ! أرتاح ! يا إلهي ! ...
ولن تَجِديه يا فيروز ، حُلمكِ يحفرُ فيكِ كما يحفر النهرُ العظيم في الأرض ، رُوحُكِ عَطّشها اللّه لتظلّ تضيء شموعَها الرائعة على طريق الرجاء.
نهرٌ هادرٌ و عطشان : هذا هو عذابُ الموهبة .
البيان الأول لقصيدة النثر
في بيانه الأول حول قصيدة النثر ، الذي جاء في مقدمة ديوانه الأول ( لن ) ، كتب : هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة ؟ النثر محلول و مرخي و مبسوط كالكف ، و ليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه .
طبيعة النثر مرسلة ، و أهدافه إخبارية أوبرهانية ، إنه ذو هدف زمني ، و طبيعة القصيدة شيء ضد .
القصيدة عالم مغلق ، مكتف بنفسه ، ذو وحدة كلية في التأثير ، و لا غاية زمنية للقصيدة .
النثر سرد ، و الشعر توتر ، و القصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير ، النثر يتوجه إلى شيء ، يخاطب و كل سلاح خطابي قابل له .
النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة ، و التوسع ، و الاستطراد ، و الشرح ، و الدوران ، و الاجتهاد الواعي- بمعناه العريض – و يلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع .
الشعر يترك هذه المشاغل : الوعظ و الإخبار و الحجة و البرهان ، ليسبق .
إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا" في النفس ، أقل تورطا" في الزمن الموقت و القيمة العابرة ، أكثر ما تكون امتلاكا" للقارئ ، تحريرا له ، و انطلاقا به ، بأكثر ما يكون من الإشراق و الإيحاء و التوتر .
أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه . القصيدة ، لتصبح هكذا ، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها و إنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها و تكريرها ، و شد حزمتها .
القصيدة ، لا الشعر ، هي الشاعر .
القصيدة ، لا الشعر ، هي العالم الذي يسعى الشاعر ، بشعره ، إلى خلقه .
قد يكون في ديوان ما شعر رائع و لا يكون فيه قصيدتان ، بل يكون كله قصيدة واحدة ، فالقصيدة ، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه ، هي الصعبة البناء على تراب النثر ، و هو المنفلش و المنفتح و المرسل ، و ليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه ، فالنثر منذ أقدم العصور و في مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا" إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه .
شهادات بحق أنسي الحاج
هذه الشهادات قيلت و كُتبت قبل رحيله _ أثناء غيبوتبه المرضية – ، و كذلك بعد رحيله :
أدونيس : أنه الأنقى بيننا ! .
عباس بيضون : لقد وجدت القصيدة انها متلألئة في السماء . ملموسة و بارزة و لا تحتاج إلا لمن يعيد تركيبها ، إنها موجودة داخل الجسد و داخل النفس ، و ها هو يغمض عينيه و يجدها . يغمض عينيه ويتابع الصراع ، يغمض عينيه و يعمل ، يعمل بصمت ، يعمل في نومه ، يرى القصيدة و يجمعها ، تأتيه الكلمات طوع يده و هو لا يفعل سوى أن يثبتها في أماكنها .
إنه يراها ، يحلم بها ، فهو يعمل حتى في نومه ، و حين يستيقظ سنرى القصيدة في عينيه ، حين يصحو و يخرج من الغرفة سنرى القصيدة فيه ، سيكون هو القصيدة .
4
عبدالقادر الجنابي : إنها الرسالة التحررية لشعر أنسي الحاج الخالي من اي تلميح ايديولوجي ، تكمن ، من جهة ، في انه وضع توجهاً شعرياً كلاسيكي المنحى كان سائداً ، على الرف ، مرة و إلى الأبد .
و من الجهة الأخرى ، في قدرته على زج اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن الى صور تسمعها العين .
جرجس شكري : لهذا أقرأ شعر أنسي الحاج في صمت ، و لا أناقش الآخرين حوله ، لا أتحدث مع أحد عن شعره ، و كأنه طقس سري ممتع ، أتامله ، أفكر في هذه السطور و في قسوة المعنى ، أهمس لنفسي بكلام أنساه بعد لحظات و أقول لي : لا تكتب عن أنسي الحاج ، ولا تتحدث عنه ، احفظه كمحبة لا تسقط أبداً .
بول شاوول : ... طويلاً و رحلتَ و يا لجلجلة الوجع يا أنسي . و طويلاً كنّا معاً ، أكثر من عمر ، و أكثر من ميلاد .
و أكثر من ميتات و رجوع ، و أكثر من شِعر ، و أكثر من درب .
و أكثر من صداقة ، خمسة و أربعون عاماً يا أنسي، معاً ، و كأننا نوازي نهراً لا نعرفه ، و سماء غامضة ، و أقداراً لا تُحسب لنا ، و أرصفة تغير أسماءها .
و مدينة كلّما مشت مشينا ومشيناها ، و كلما توقفت أصاب حواسنا الحنين ، أصاب أقدامنا الوقوف بلا إشارات . . . و لا قبعات و لا مفترقات كأنما باتت الحياة طريقاً واحدة ضلّ حُرّاسها طويلاً .