اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > المدينة فـي العراق والتمويلات المتعثّرة

المدينة فـي العراق والتمويلات المتعثّرة

نشر في: 21 فبراير, 2014: 09:01 م

" المدن هي المحركات التي تقود نمو الاقتصاد الوطني. ومن خلال التنظيم المتكامل للفعاليات الاقتصادية، ورؤوس المال ، وطاقة إدارة الأعمال، ترفع المدن فعالية حركة العمل وتخلق الطاقة الدافعة للنمو المستدام من خلال التوسع الحضري بقدر هجرة الإنتاج الريفي المن

" المدن هي المحركات التي تقود نمو الاقتصاد الوطني. ومن خلال التنظيم المتكامل للفعاليات الاقتصادية، ورؤوس المال ، وطاقة إدارة الأعمال، ترفع المدن فعالية حركة العمل وتخلق الطاقة الدافعة للنمو المستدام من خلال التوسع الحضري بقدر هجرة الإنتاج الريفي المنخفض إلى المدن.". ( Peterson & Annez, Financing Cities, 2007 ).

فإذا كانت المدن هي محركات الاقتصاد، فإنها كذلك المشاريع العظمى التي يعول عليها لاستمرار هذه الحركة. والمدن من وجهة نظر اقتصادية أولا هي بالفعل مشاريع تحتاج إلى تمويل أولي كاف ٍ لإقامتها ومن ثمة إلى تمويل مناسب ومبرمج لأدامتها وتطويرها.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن القاعدة الأساسية التي ترتكز وتستند إليها هذه المشاريع الكبرى – المدن – هي البنى التحتية - بكل ما تشتمل عليه من خدمات صحية وتقنية ولوجستية ( ما يخص النقل ) وترفيهية وأي خدمات أخرى تتعلق بالمصلحة العامة وما ينفع المجتمع. هذه الخدمات التي يؤدي تعطيلها إلى شل حركة المجتمع وكذلك الدولة. وهي الخدمات التي ينبغي على الدولة ان تضخ فيها الجزء الأكبر من ميزانيتها وتمويلها، فما من مشروع يمكن أن يبنى من دون أرضية صالحة ومناسبة، وما يبنى على قاعدة فاسدة لا ينتج إلا فسادا.
وهنا يبرز تساؤل لا مفر منه. ما هو منطق المسؤول الحكومي الذي يرفض التصويت على ميزانية الدولة المخصصة للبنى التحتية؟ وما هي الحكمة من وراء ذلك؟ وكيف يصب اعتراضه في صالح المجتمع؟
يتضمن الشطر الأول من تمويل المدينة ما يكفي لإقامتها، ولا يعني ذلك إقامتها وتشييدها دفعة واحدة، مع ان تأريخ المدن يذكر لنا بعض الأمثلة لمدن أقيمت بشكل شبه كامل في مدد قياسية في بلدان لا تتمتع بالقدرة التمويلية العالية التي يمتلكها العراق، فقد تم تشييد مدينة برازيليا في غضون 3 سنوات 1957-1960، تلك المدينة التي حازت جائزة موقع التراث العالمي من اليونسكو UNESCO World Heritage Site . قدرت كلفة المدينة حينها بحوالي 450 مليون دولار ويسكنها الآن أكثر من 2.5 مليون نسمة.
وللمقارنة نذكر أنه تقدر كلفة مجمع بسماية السكني قرب بغداد بحوالي 7 مليارات دولار. وبعد عقد مقارنة سريعة نجد أن سعر النفط تضاعف حوالي 30 مرة عما كان عليه في الستينات، في حين أن كلفة بسماية تعادل حولي 70 مرة كلفة برازيليا بعد ملاحظة الفرق في الحجم وعدد النفوس. كما شيد الجزء الأكبر من مدينة أبوجا عاصمة نيجيريا، التي حلت محل لاغوس، في عقد الثمانينات من القرن الماضي. وشيد جزء كبير من مدينة أستانا عاصمة كازاخستان بعدما تمت إزالة معظم المباني التي كانت مشيدة في فترة الاتحاد السوفياتي، وقد شارك في التصاميم الجديدة معماريون معروفون أمثال البريطاني Norman Foster والياباني Kisho Kurokawa .
غير أن الغالبية العظمى من المدن تقام على مراحل متعددة وأكثرها على أسس مدن قديمة، كما أن المدن المقامة والمخططة مسبقا ُ Planned Cities لابد أن تستتبعها مراحل متأخرة ،فالمدينة مشروع غير قابل للتوقف، بل إن التوسع Expansion والتطور Development هما بلا شك من خصائص المدينة الحية وبعض عناصر قوتها. وأن كل مدن العراق بلا استثناء قابلة للتطور والتعديل وأن معظمها إن لم يكن كلها مقامة على أسس تأريخية لها قيمها التي لا يستهان بها. ولعل الحاجة إلى إقامة مدن جديدة ليس لها ما يسوغها، ولكن هناك حاجة إلى توابع مدن Satellite Towns . إن المشكلة الأساسية في العراق لا تكمن في المدن وعدم قدرتها على التطور ،ولكن تكمن في سوء التخطيط وفي فوضى التمويل، لا قلّته.
يتميز العراق بموازنة مالية ضخمة مقارنة بالعديد من الدول ( تقدر موازنة العراق لعام 2014 بـ 150 مليار دولار )، ولعل هذا ما يجعله موضع جذب لنهم جيرانه وسوقا ً خصبا ً لدول الاستثمار الكبرى منها والصغرى، إضافة إلى جشع المسؤولين داخل الدولة ومحاولتهم خلق فرص مناسبة لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه من التخصيصات المالية للإعمار تحت عناوين شتى ظاهرها الإعمار وباطنها التخريب والمنفعة الخاصة.
في أحيان كثيرة وخاصة حين يتعلق الأمر بمشاريع البنى التحتية الضرورية جدا ً لا تخصص تمويلات مالية أولية تغطي كلفها الحقيقية لتوصلها إلى مرحلة التشغيل والإنتاج والاستفادة، وأن تجربة بغداد الأخيرة مع مياه الأمطار والفيضانات التي سببتها وكفاءة شبكة تصريف المياه والتخطيط المستقبلي الذي وضع لها من قبل يعطي إشارة واضحة لذلك. وكمثال للمقارنة فقد بدأت المكسيك بإنشاء نفق لتصريف مياه العاصمة مكسيكو سيتي – بما فيها الثقيلة أيضا ً - التي تعاني من مشاكل بسبب موقعها السيئ. يعد النفق المسمى Tunnel Emisor Oriente الأكبر في العالم ويبلغ طوله 62 كيلومترا، بدأ العمل به في عام 2008 وسينتهي العمل به هذا العام 2014، وقد خصص له التمويل الكافي لتشغيله البالغ 1.18 مليار دولار.
وفي أحيان أخرى توضع تمويلات أولية كافية لإنجاز المشاريع ولكن على مراحل غالبا ً ما تتعثر بسبب تعثر الإنجاز الذي يؤخذ كشرط لصرف الدفعات التالية من التمويل. ولعل المدارس ذات الهياكل الحديدية التي بدأت بإنشائها بعض الشركات الإيرانية في محافظات الجنوب والتلكؤ الذي حصل فيها مثال على ذلك.
أما الحالة التي شاعت في السنوات الأخيرة في مدن العراق فهي أن يخصص تمويل أولي كاف – غالبا ً مايكون التمويل أكبر من الكلفة الحقيقية بكثير – ثم ينتهي المشروع إلى التوقف بسبب الفساد الإداري وصرف التمويل في غير محله، ولا حاجة للإتيان بمثال لكثرتها.
غير أن هناك حالة هي أعم وأخطر من هذه الحالات ،قد أشار إليها الدكتور محمد علي زيني في لقاء حول كتابه ( الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل ) إذ قال " إن الميزانية الحكومية الاعتيادية (أي التشغيلية) ستلتهم الجزء الأكبر من أموال الصادرات النفطية في كل سنة، ولن يبقى إلا ما يكاد يكفي لإعادة بناء البنية التحتية وتوسيعها لمواجهة حاجات السكان الذين تتزايد أعدادهم باستمرار. ". يتضمن الشطر الثاني من التمويل الكلف التشغيلية Operation Costs وكلف الصيانة Maintenance والإدامة وكذلك كلف التوسعة والتطوير، فما من مشروع لا يحتاج إلى تمويل مستمر ليحافظ على حيويته وبقائه. والمدن باعتبارها مشاريع تتضمن التنويع سعيا ً للتكامل والتكافل غالبا ً ماتكون قادرة على تمويل نفسها بنفسها وتغطية تكاليف صيانتها واستمراريتها، ومعظم مدن العراق تمتلك هذه الطاقة التمويلية إما من مصادر طبيعية كمدن النفط كالبصرة وكركوك والعمارة أو من عائدات الفعاليات الحضرية كالسياحة الدينية في كربلاء والنجف التي تكاد تفوق عائدات النفط.
وتعود نفس العوامل هنا ،إذ أن سوء الإدارة وفوضى التمويل والفساد الإداري هي أكثر العوامل التي تقطع على مدننا في العراق هذا التمويل اللاحق أو تجعله متعثرا ً والذي لا يقل أهمية عن التمويل الأول، مما يجعلها مدنا ً عاجزة مشلولة مهترئة هرمة غير قادرة على توسعة نفسها وغير قادرة على استيعاب التطور الحاصل فيها وغير قادرة على مواجهة المشاكل المستحدثة فيها والأحداث الطارئة التي قد يتحول بعضها إلى كوارث تجر المدينة إلى حالة من الخراب والانهيار يصعب عليها النهوض من تبعاته.
تمتلك مدينة مشهد الإيرانية طاقة تمويلية مشابهة لما في النجف الأشرف وكربلاء ،وذلك لوجود ضريح الإمام علي الرضا فيها الذي أكسبها سياحة دينية واسعة كانت كافية لإعمار وتطوير هذا المرقد مما جعله من أوسع المواقع الدينية والتأريخية في العالم إضافة إلى إنجازات عمرانية أخرى من أشهرها تغطية نفقات إعادة إعمار مدينة الحويزة في الجنوب الغربي لإيران والتي دمرها الجيش العراقي بالكامل في حرب الثمانينات. غير أن مراقد الأئمة في النجف وكربلاء مازالت عاجزة عن النهوض بمستوى مبانيها والخدمات المقدمة فيها برغم الإيرادات الضخمة التي تحققها السياحة الدينية هناك وبرغم الضخ المالي الذي تحصل عليه من الموازنة العامة. وقد تعثر مشروع توسعة مرقد الإمام علي (ع) تعثرا ً يثير الحنق برغم المصادقة عليه منذ عدة سنوات. فكيف يمكن تبرير ذلك بغير سوء الإدارة وانعدام التخطيط والفساد الذي يدب ّ في أوصال المؤسسات المسؤولة؟
أن واقع المدينة في العراق يشير بوضوح إلى أن التمويل المخصص لأغراض التشغيل والتطوير والصيانة هو الجزء الأكثر تعرضا ً للإهمال والتعثر والإلغاء في أحيان كثيرة مما يجعل أكثر المشاريع بما فيها المدن أنفسها عاجزة عن الوصول إلى مراحل تكاملها أو على الأقل بلوغ الأهداف التي أنشئت من أجلها ضمن المدد الزمنية المقدرة لها. وبعبارة أخرى فإن ذلك يحيل مدننا في العراق إلى مشاريع مستهلِكة غير منتجة.
كما أن مشاريع المدن الحديثة ( كمدينة مصدر في الإمارات العربية ) والمدن التوابع ( كمدينة شونيي الصينية التابعة لبكين ) ومشاريع البنى التحتية ( كنظام تصريف المياه في طوكيو ) وخطوط النقل ( كخط نقل وجسر Millau Viaduct في فرنسا ) وأنظمة الحركة الحديثة ( كنظام الحركة في هونغ كونغ ) والمباني المستدامة ( كمبنى 30 St Mary Axe في لندن ) وغيرها، هذه المشاريع بضخامتها وعلميتها ودقتها وفعاليتها تجعل معظم المشاريع التي تنفذ في مدن العراق تقف أمامها خجولة متأخرة لا تستحق التمويلات التي تخصص لها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram