سعد أحمد
في حوار أداره معه الراحل كامل الجادرجي، ذكر الشاعر معروف الرصافي، سبب انتقاله للسكن في الفلوجة، وهي مدينة صغيرة، ملمومة على نفسها، تفتقر الى الوسائل والمصادر التي يحتاج اليها في حياته وعمله الإبداعي والفكري. قال ببساطة انه يتقاضى ١٢ دينارا فقط، راتباً تقاعدياً، بعد دورتين نيابيتين أمضاهما في البرلمان، وهو مبلغ لا يكاد يغطي الا الكفاف من العيش في مدينة قصيّة مثل الفلوجة .
بطبيعة الحال، فان المبلغ بمعادله اليوم قد يساوي خمسين ضعفاً او حتى أكثر، لكنه من حيث القوة الشرائية لا يغطي بحسابات ذاك الزمن متطلبات حياة نائب لدورتين!
ليس ممكناً المقارنة في كل صروف الحياة والسياسة والقيم الاجتماعية، مع زمننا هذا، وبشكل أدق مع أيامنا هذه، حيث لا مجال للمقارنة، لأن الدنيا لم تعد دنيا الأيام الخوالي، لم تتغير فيها العادات والتقاليد والقيم فحسب، بل شمل التغيير طقوس المسلم وطريقة أداء شعائره، فلم يكن معروفاً يومذاك ان قتل المسلم لأخيه المسلم، بل "والذمّي" ايضاً، فرض عين على المسلم "الآخر" المختلف "مذهبياً"، ولم تكن "الكمبيالة" أو "الشيك الآجل" ضمانة القرض الشخصي او في المبادلات التجارية، بل كانت تكفي "الكلمة" لأنها كانت تعني "الشرف الاجتماعي، والمكانة". وفي كل حال من أحوال الحياة وصروفها، يمكن إيراد ما يؤكد أن لا مجال للمقارنة.
واذا تجاوزنا الراتب التقاعدي الذي كان يتقاضاه شاعرٌ مبدعٌ بقامة الرصافي، انتُخِبَ لدورتين برلمانيتين، وما عليه النائب في أيامنا هذه من "مرتبةٍ سياسية رفيعة"، وراتبٍ مغرٍ ، وحراسة مشددة، وجواز دبلوماسي، وامتيازاتٍ يسيل لها اللعاب، وانتقلنا الى ما كان يؤديه كلّ منهما من دور في الحياة العامة، فإن المقارنة تضيق. فباستثناء الحرج من المس بالذات الملكية، وهو يوازي في عهدنا، ذات القائم بأمره السيد رئيس مجلس الوزراء، فإن النائب يومذاك كان يصول ويجول في الرقابة على الشؤون العامة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر. نذكر حادثتين طريفتين، تخففان عنا الاحتقان، كما خففت عنا ظرافة رئيس مجلس وزرائنا قبل أيام وهو يخاطب اهل الأنبار، من موقع عسكري محمي، معلناً استجابته لكل المطالب، بما في ذلك ترفيع الضباط وعودة قادة البعث من الخارج، وفرمانه بصرف "مئة مليار دولار" لعودة من نزحوا اثر القصف العشوائي!
والحادثة الظريفة الاولى تصلح للمقارنة بفرمان المالكي، المنافي لأية قاعدة دستورية في نظام شبه ديمقراطي مشوه. والشيء بالشيء يُذكر، فإن الوصي على العرش يومذاك عبد الاله، كان في سفرة الى الولايات المتحدة، فاستلف من الأوقاف مئة وثمانين دينارا لغرض التبرع بها الى مساجد هناك. وصادف، لأي سبب كان، ان الوصي نسي توزيع المبلغ، فقامت قيامة النواب، وأثيرت "الفضيحة" الملكية في البرلمان واستدعي رئيس الوقف، وعُوقب بنقله الى دائرة أخرى .
وأجبر الوصي على إعادة المبلغ الى خزانة الوقف صاغراً، دون ان يُبدي امتعاضاً او يتدخل لإنقاذ رئيس الوقف من العقاب.
هل من أحدٍ في أي موقع كان، في وسعه ان يضع المالكي، في هذا العهد الجمهوري الديمقراطي، وبعد عقود من الاستبداد، أمام المساءلة عن التسبب بإثارة فتنة طائفية، ودفع جيشه الى حرب ضد خيمة اعتصام، وقتالٍ لم يفوضه به البرلمان كما ينص الدستور، والاستفسار منه حول المادة الدستورية التي تجيز له صرف "مائة مليار دولار" من موازنة الدولة، من هو، وبأية صلاحية واقتدار يقوم بكل هذا دون رادع؟
الرصافي ابتلع المرارة، وانتقل الى الفلوجة ليداري فقره وقلة حيلته براتب تقاعدي قيمته ١٢ ديناراً لا غير.
والوصي رضخ صاغراً للنواب وأعاد ١٨٠ ديناراً الى الوقف.
والمالكي يتصرف بالمليارات، دون ان يواجهه مغامرٌ جسور من حزب الدعوة، قائلاً له: على عينك حاجب..!
هل ثمة مقارنة بعد هذا؟
تقاعد الرصافي بعد دورتين نيابيتين:..١٢ ديناراً كانت تكفي في الفلوجة
[post-views]
نشر في: 21 فبراير, 2014: 09:01 م