TOP

جريدة المدى > عام > 70 عاما من العطاء .. سبعون الأُستاذ

70 عاما من العطاء .. سبعون الأُستاذ

نشر في: 23 فبراير, 2014: 09:01 م

حياته وأعماله جزء من تفاصيل واقع وتاريخ تتغلب فيه الذاكرة على النسيان والوطن على الطائفة والتحزب ..  إنه الفنان والسياسي والممثل والكاتب الذي نسج ملحمته الوطنية وقال حكمته وهو أشد ثقة بنفسه وكلماته التي تخترق الواقع بلا أوهام أو أكاذيب ،لأنها مع

حياته وأعماله جزء من تفاصيل واقع وتاريخ تتغلب فيه الذاكرة على النسيان والوطن على الطائفة والتحزب ..  إنه الفنان والسياسي والممثل والكاتب الذي نسج ملحمته الوطنية وقال حكمته وهو أشد ثقة بنفسه وكلماته التي تخترق الواقع بلا أوهام أو أكاذيب ،لأنها معنية بالإنسان، إنساننا العراقي بنبضه ودمه، بمسيرته الشاقة وخبرته أمام الأحداث، بتفاصيل حياته وأحلامه المنكسرة . فمن منا لا يتذكر (دعبول البلام) و(أم شاكر) و(نوار) و(حيرة) و(الخان) بشخصياته العديدة التي أصبحت كأنها تعيش بيننا بملاحمها التي نعرفها، وعذاباتها التي لاتزال تنشد الخلاص، والشريعة وهي تؤذن بانهيار عالم قديم وفتح الأبواب والنوافذ لعالم جديد يزخر بالحرية  والأمل .
ولد يوسف العاني عام 1927 في محلة سوق حمادة ،وهي محلة فقيرة من محلات بغداد، وقد أسهمت هذه البيئة المليئة بالأجواء الشعبية في تأسيس البدايات المؤثرة في تكوين العاني وفتحت وعيه بالمكان بأناسه وتفاصيل الحياة فيه، وليس من شك في ان علاقة يوسف العاني بالمكان الذي ولد فيه ونشأ فيه علاقة إنسان عاش حياته وتشرب تفاصيلها اليومية وتشبع هموم الناس وآمالهم حتى غدت معرفته بالمكان معرفة الخبير الذي وعى إشكالاته وأدرك متطلبات ناسه .. ويبدو ان هذه الحياة أتاحت له معرفة مبكرة بواقعه وطبيعة مجتمعه..
لقد خبر الأحياء البغدادية خبرة وافية واستطاع ان يعي سلوك إنسانها وأوجاعه وتطلعاته وحمل خبرته هذه التي ترسبت في وعيه وكانت مخزونا غنيا ومادة لأهم أعماله المسرحية التي كتبها لاحقا ،وبالأخص ثلاثيته الشهيرة(الشريعة - الخان - الجسر) التي أرخ فيها مرحلة حاسمة من مراحل تاريخ العراق تلك المتمثلة بفترة الأربعينات والخمسينات وما انعكس من تأثيرها في تاريخ العراق السياسي وفي حياة الشعب العراقي وأيضا في وعي يوسف العاني ورفاقه من الكتاب حين بدأت ملامح الغضب وعدم قبول ما يتعرض له الشعب من اضطهاد .. فالعاني وجيله الذي ينتمي إليه فتحوا أعينهم على احتلال بلادهم الذي خلق أوضاعا غير معهودة ، فكان من الطبيعي ان يتعمق وعيهم بما حولهم وان تزداد درجة تحسسهم لما يمر به المجتمع من حركة وتغيير واستقبال للأفكار والتيارات الجديدة، في هذه الأجواء بدأت الممارسات الأولى في الكتابة عند العاني ، فقد اخذ يكتب المسرحيات القصيرة ذات المشهد الواحد ،وهي المسرحيات التي اتسمت باعتمادها على الألفاظ الساخرة وعلى المفارقات الحياتية. 
هذه البداية كانت الأسلوب الذي اعتمده العاني في ما بعد في كتاباته المسرحيات الطويلة، وأعني به أسلوب البحث عن المفارقات الاجتماعية التي تحمل موقفا انتقاديا من ظاهرة ما وأيضا كانت تأسيسا واضحا للاتجاه الواقعي الانتقادي في المسرح العراقي، لكن هذا الميل لكتابة المسرحيات القصيرة سرعان ما توقف بعد محاولات كتابية أشبه ماتكون بالمسرحيات ذات الفصل الواحد التي توّجها بمجموعته (راس الشليلة) التي تكاملت فيها رؤيته الفنية وتوضحت أهداف المسرح الذي يريد أن يقدمه للناس .
وقد أظهرت هذه المسرحيات أن المؤلف منحاز للقضايا التي تخص الطبقة الفقيرة ،فالشخصيات تعاني الفقر وتشعر بالظلم الاجتماعي، ومن خلال هذه المجموعة المسرحية استطاع العاني ان يرسم صورة كاريكاتورية للنظام الحاكم في الخمسينات وأن يضع الجهاز السياسي للدولة هدفا للنقد وأن يصور العلاقة المختلفة بين الحاكم والمحكوم في مجتمع ينخر فيه الفساد.
***
ليس مصادفة أن يترك هذا الرائد المسرحي متطلبات المسرح الكلاسيكي ليستعين بشيء أشبه بمفردات الحياة اليومية في وصف العالم المحيط به ليستخلص رموز الحياة من التفاصيل الصغيرة والحركات البسيطة والشخصيات الأليفة والأفعال التي قد لا يأبه بها احد، وهو في هذا المنحى يشبه معلمه الكبير (برتولد برشت) في العودة بالمسرح إلى منابعه الأولى حيث البساطة المقترنة بالعمل الذي يصنع الحياة والجمال الذي لا يتولد إلا من تفاصيل عوالم المهمشين .. ويبدو أن إعجاب العاني بمسرح برشت خصوصا في مسرحة التفاصيل استند إلى توافق فكري يدعم المنحى الجمالي ، فبرشت مناضل يساري تفجّرت كلماته في سياق التمرد على الفاشية والنازية وقد جلبت عليه أعماله المسرحية نقمة النازيين الذين منعوا عرضها ونشرها وشردوا كاتبها سنوات طويلة، وقد عانى العاني بسبب أفكاره والتزامه على امتداد السنوات التي عاشها في وطنه وعرف مذاق السجن مثلما عرف حياة المنافي التي لم تنته ، ويبدو أنها لن تنتهي في وقت قريب ،لأن آلامها امتزجت بمعتقدات صاحبها الذي مضى إبداعيا في طريق أشبه بطريق برشت سواء في الالتزام السياسي النابع من المبادئ نفسها أو الرؤية الجمالية التي انحازت إلى عملية استنباط المعاني الكبيرة من التفاصيل الصغيرة وناسها المألوفين ولوازم حياتهم المهمشة ،ومع هذا المسرح المغاير يبدو العاني حاد البصر والبصيرة غير غافل عن فائدة المفارقة التي تقترن بالسخرية والمعارضة أو المحاكاة التهكمية محاولا شدنا إلى المستقبل حيث يعبد الكاتب والممثل والفنان طريقا يتميز بخصوصيته الشديدة التي أبدعها عبر نصوصه المسرحية التي تقودنا إلى ذلك العالم الغني الذي يتم بناؤه على تصورات من وجودنا في المكان والزمان والمشدود دائما بفيض من غناه إلى معنى فعل الحياة المتمثل في فهم الكاتب لهذا الفعل الذي يؤكده دائما في اختياراته.. فعالم العاني يزدحم بصور الناس الذين يعشقون الحياة ويحملون على أكتافهم الحلم بحياة جديدة ويصنعون بوعي أسطورة حياتهم، مثل هذا العالم لا يقدر على صياغته إلا ذلك الكاتب الموهوب الذي خرج من قلب هذا العالم واكتسب مفرداته. 
***
يحدثنا يوسف العاني بمزيد من الفرح والزهو عن اللحظة الأولى التي صعد فيها خشبة المسرح، وكان ذلك يوم 24/ شباط عام 1944 : " كل التفاصيل ما زالت في بالي، في ذلك اليوم قدمت مسرحية بالطبع، ووقفت أول مرة على خشبة المسرح، لنص أنا كتبته، وهو نص ساذج بوقته، وأنا أخرجته، وكنت لا أعرف ما هو الإخراج، وكان عندي مجرد كلمات مثل : اقعد، قم، وحتى عندما كنت أمثل، كنت أقلد شخصية في السينما وليست موازية للشخصية التي مثلتها وهي (مجيد أبو الجايخانة / مجيد صاحب المقهى). وكانت فائدة كبيرة بالنسبة لي عندما انتهت المسرحية وصفق الناس وضحكوا، ناداني مدرس مادة (النبات)، وكان هو المشرف علينا، قال لي : يوسف.. ما الذي أردت أن تقوله بهذه التمثيلية؟ فقلت له : أستاذ.. هذه لا يسمونها تمثيلية، فالأستاذ سيد صادق الأعرجي يقول (مسرحية)، فلم يأبه لكنه قال لي : ماذا أردت أن تقول أنت؟ فقلت : كما رأيت، رجال شرطة دخلوا المقهى على أساس أنّ فيها أشخاصاً يلعبون القمار، وعندما شاهدوا الشرطة وقفوا وكأنهم يؤدون الصلاة، ولكن عندما خرج الشرطة أحد أفرادها انتبه فقال للعريف :إن الجماعة يصلّون في هذا الاتجاه بينما القبلة في الاتجاه الآخر! لكن (مجيد) الذي مثلت شخصيته أنا، سمع ما تحدثوا به، وعلى الفور استدار إلى القبلة، فدخل الشرطة ثانية فوجدوهم يصلّون باتجاه القبلة، فقلت : الله أكبر، وبما أن ورق القمار في عبي، فمع انحناءتي انزلقت الأوراق أمامي، فبدأ الشرطة يفاوضوننا ويريدون أن ندفع لهم ربع دينار وأنا أقول لهم : أعطيكم درهما، وبعد حديث من هنا وهناك قلت لهم : إذا أعطيكم ربع دينار، فللأكبر منك.. ماذا أعطي من فوق إلى تحت، ماذا أعطي؟! وإذا بالقاعة تصفق، وكان من ضمن الحضور الوزير الذي صفق، ولكن في اليوم التالي أرسل المدير منير القاضي في طلبي وقال لي : (بابا يوسف.. ليش هيج بابا)، نحن إذا عزمنا أحدا إلى بيتنا هل يجوز أن نشتمه؟ قلت له : لا، فقال : كيف يوم أمس قدمت المسرحية بهذا الشكل وتقول من فوق إلى تحت؟ فقلت له : نحن نقرأ في الدستور أن الملك غير مسؤول، فردّ عليّ : والا من المسؤول؟، في ذلك الوقت كان احد أفراد العائلة المالكة قد سكر بالليل وعمل انقلابا اسمه (علي الحجازي)، فاعتقلوه وألقوه في السجن، وكان هو مدير الشرطة العام، فقلت له : هذا علي الحجازي، فهل هذا يعتمد عليه؟ فهز رأسه وقال : بابا إن بعض الظن إثم ، فطلعت من غرفته وكان جماعتي يعتقدون انه سيفصلني من المدرسة " .
منذ ذلك المشهد وحتى يومنا هذا 24 شباط 2014 .. سبعون عاما قضاها يوسف العاني في المسرح والحياة وفي صدارة المشهد الثقافي ، هي سبعون عاما من عمر العراق بمسراته وأحزانه ، برز يوسف العاني والعراقيون في الشوارع والساحات يناضلون من اجل رحيل الاستعمار ، وقاد معهم وهم يودعون الملكية ، سنوات العمل الجاد في ترسيخ أسس دولة الرفاهية الاجتماعية بعد عام 1958 ، وتأسى وهو يرى بلاده تودع الاستقرار وتخيّم عليها سحابات الاستبداد والتسلط ، لكنه ظل متألقا لم يأفل مع أفول الحرية والاستقرار ، بل سوف يصر على تسجيل أدق تفاصيل نبضات هذا الوطن .. وسوف نراه عبر سبعة عقود يصر على ان يسجل تاريخ الحياة العراقية ويعبّر عبر مسرحياته وأعماله التلفزيونية وكتاباته في الصحافة عن الحالة السياسية والاحتماعية لهذه البلاد ، ليصبح وحده شاهدا على أفراح هذا الشعب وعلى خيباته الكثيرة .. فما من أحد غيره سوف يحمل إرث هذا الوطن معه أينما حلّ .
قبل سبعة قرون حلم يوسف العاني بأن يؤسس له مكانا على خارطة الثقافة العراقية ،وما أن حانت الفرصة في منتصف الخمسينات حتى استطاع الأستاذ أن يجعل من مسرح صغير في حي البتاوين الشعبي – مسرح بغداد – مؤسسة فنية وثقافية وسياسية هي كل مسرح العراق ، دفع بالمسارح الأخرى إلى الخلف .. عرف يوسف العاني مكانة المسرح في نفوس العراقيين، ولم يبخل عليهم بكل جديد ، دافع عن قيم الحرية والديمقراطية ، وقاتل دفاعا عن مسرح يلتزم قضايا الناس .. وضع فنّه وخبرته في خدمة فرقته الاثيرة فرقة المسرح الفني الحديث .
***
لم يكن يوسف العاني يُدرك أنه في لحظة صعوده على خشية المسرح عام 2014 أنه سيُسحر مشاهديه حين يقدّم لهم حكايات تشبه أيامهم وشخصيات أقرب إليهم من ظلّهم ..ننظر اليوم إلى ماقدمته فرقة المسرح الفني الحديث ونتأمل في ألبوم أعمالها الزاخر . ، ونتذكّر تلك الأسماء التي جاءت من معظم مدن العراق ، يحملون معهم حلما كبيرا ، ليصوغوا معا صورة العراق الجديد .. جاء يوسف العاني من الفلوجة وإبراهيم جلال من بغداد ، وسامي عبد الحميد من السماوة ، والخال خليل شوقي من إحدى محلات بغداد العتيقة وزينب من مدرسة في أطراف الأنبار وناهدة الرماح من الحيدرخانة ، وقاسم محمد حاملا من موسكو آمالا عريضة ، وعمة زكية من ميسان. وتطول القائمة ولا تنتهي عند عبد الواحد طه ومي شوقي، وروميو يوسف وفوزية عارف ومجيد العزاوي وعبد القادر رحيم ، وجواد الأسدي وعواطف نعيم وإقبال محمد علي وعشرات كان القاسم المشترك بينهم وحدة الكلمة ونوع المسرح الذي سيقدمونه للناس ، وكان على يوسف العاني أن يحمل هموم الفرقة على كتفيه .. تساعده قدرة على صياغة الكلمات لتتحول إلى مشاهد حياتية ، نقل فيها ما يجري في كواليس الحياة العراقية إلى خشبة المسرح .. وغرد ممثلا على خشبته ليتنقل من عبود البلام إلى زيطة في الخان إلى حمادي في النخلة والجيران ، ومن دبش في القربان إلى عبود الكرخي في مجرشته ، من الشريعة إلى الخان ومن بغداد الأزل إلى مقامات الهمداني .. لينقل العراق وهمومه إلى بيروت والقاهرة وتونس ودمشق وعواصم الدنيا السبع .. كان يعتبر فرقة المسرح الفني الحديث بيته الخاص وممثليه مثل أولاده ليؤسس مع زينب وسامي وخليل و إبراهيم تلك الشراكة التي لم يستطع الزمن أن يفصم عراها .
حين كتب يوسف العاني راس الشليلة عام 1950 .. كانت المسرحية نوعا من التمرد على السائد آنذاك .. وكان فيها سطور من الازدراء للواقع المأساوي الذي يعيشه البسطاء ، وكان العنوان نوعا من السخرية أو الرغبة في فضح ما يجري .. كانت راس الشليلة نوعا من الرفض لمسرح " الضحك " المجاني ولقفشات لقلق زادة وكوميديات المقاهي التي كانت تقدم فواصل يضحك منها الجمهور على حركات الممثلين لا على المواقف التي يطرحونها .
راس الشليلة المسرحية التي أصبحت في ما بعد عنوانا لأول مجموعة مسرحية تصدرها مجلة الثقافة الجديدة عام 1945 بمقدمة كتبها المعلم صلاح خالص تعد حتى هذه اللحظة أبرز ما كتب عن مسرح يوسف العاني : " فهذا المسرح يتغلغل في الحياة العراقية وينتزع منها صورا رائعة قوية مظهرا تناقضاتها الغريبة بشكل قوي مؤثر ويجعل من الشخصيات المرتبطة بزمان ومكان معينين شخصيات نموذجية لا تمثل أشخاصا بذاتهم وإنما تمثل جوانب مختلفة من جوانب النفس البشرية أو تيارات متباينة من تيارات الحياة " ..هذه المجموعة المسرحية ستصبح منذ لحظة صدورها بداية حقيقية للمسرحية العراقية الحديثة التي سيكتبها في ما بعد عادل كاظم وقاسم محمد ونور الدين فارس ومحيي الدين زنكنة وطه سالم ، ورغم أن هناك الكثير من المحاولات في الأدب المسرحي العراقي ، إلا أن راس الشليلة وفي ما بعدها أنا أمك ياشاكر والمفتاح والشريعة والخان والجومة والأمس عاد من جديد ، تؤكد الريادة الحقيقية ليوسف العاني في كتابة مسرحية عراقية خالصة مثلما حدد ذلك الناقد الكبير جميل نصيف الذي وهو يسلط الضوء على هذه الريادة في مقال نشرته مجلة الآداب اللبنانية في السبعينات : " ينفرد يوسف العاني بين كتّاب المسرح العراقي اليوم بكونه أطولهم باعا ،وأرسخهم قدما ، وأكثرهم خبرة في هذا الميدان .. وطوال عقدين من السنين استطاع العاني أن يكوّن لمسرحه جمهورا متميزا المعالم على مسرح الحياة في العراق ، إذ وقعت حوادث شتى وحدثت تبعا لذلك تغيرات جذرية في الحياة السياسية والاجتماعية تركت آثارها واضحة على مجمل العلاقات بين فئات المجتمع وطبقاته المختلفة كما تركت آثارها على تفكير الناس وسلوكهم ونظرتهم إلى العالم .. ورغم ذلك لم يتأخر العاني بل استطاع مواكبة هذه الأحداث ،فكان دائما في طليعة الحركة المسرحية وكانت مسرحياته تبحث دائما عن وسائل جديدة تتلاءم والمضامين الجديدة التي تفرضها الحياة باستمرار " 
***
بعد سبعين عاما على لحظة ولادة المسرحية العراقية الحديثة من حقنا أن نتساءل : ماهو السحر في مسرح يوسف العاني ؟ وللإجابة على هذ السؤال لابد من النظر في النسيج الدرامي للحياة الشعبية العراقية وخصوصا حياة أهل بغداد ، بمعني العلاقات الإنسانية وعرض مشكلات حية وطبيعية تكشف عن معاني التآخي والتراحم والصداقة وعلاقات الحب البريئة وكل المُثل التي سادت الحياة البغدادية ، هذا النمط من الحياة حاول يوسف العاني أن يحوّله إلى دراما اجتماعية مقدما من خلالها نصوصاً عراقية بعيدة عن التجريد ، لكنها قريبة من التجريب ، بعيدة عن السطحية كثيرة الشبه بالملحمية .. لتشكل في إطارها العام صورة عراقية حميمة يتلقاها المشاهد بإعجاب ورضا واطمئنان من أنّ هناك صوتاً يصدح بالدفاع عن قضايا الناس وهمومهم.
سبعون يوسف العاني تشبه العراق في تقلباته وأزماته ، في حزن أبنائه وأفراحهم ، مسرحيات ومواقف وكتابات تعد اليوم أشبه بمعجم عراقي نقرأ فيه تعريفات لفن وطني وثقافة تقدمية وصحافة فنية ومسرح طليعي وغناء يبهج النفس وشعر يلهب المشاعر .. أتكلم عن عقود من الثقافة والتنوير والعصر الذهبي لبغداد .. كان فيها مسرح بغداد بقيادة يوسف العاني أحد مختبراتها الكبرى .. وبإغلاقه منذ عقود أيضا خسرت بغداد جزءاً من احتياطها الستراتيجي للفرح والخيال والحداثة والفن .
***
يجلس يوسف العاني اليوم ينظر إلى سنواته السبعين يستحضر وجوهاً وشوارع وأحداثاً وعادات لا تمحى.. يجلس صاحب العقود السبعة ابن بغداد وصورتها النقية ومرآتها التي انعكست فيها همومها وأحلامها لينظر إلى مسرح انطوت أشرعته وتغيرت معانيه وتقاليده ، لم تعد هناك زينب تصرخ :" سعودي السبع ما تنطفي نارة " ولم نعد نسمع صوت ناهدة الرماح تهمس " حيران هم يجي يوم ونضحك ونلعب بليه منخاف " .. وغابت أمنيات دعبول : كلي هم يجي يوم ونصير أحرار " 
يكتب أنجلز : " تعني الواقعية في نظري ، الصدق في تصوير شخصيات نموذجية في ظروف نموذجية إلى جانب الصدق في التفاصيل " هذا الصدق الذي حدثنا عنه المعلم ستانسلافسكي : أن الفنان الحق هو الذي : " يجب أن ينظر إلى الحقيقة في السلوك الواقعي" ووفقا لتعاليم ستانسلافسكي التي عشقها العاني وحفظها عن ظهر قلب ، فإن العناصر السحرية للمسرح جمعت بين موهبة الممثل وقدرة الكاتب على اقتناص اللحظة .
بعد سبعة عقود من حقنا أن نتساءل أين يكمن سر وسحر يوسف العاني ، إن كل لمحة من إبداعه من الممكن أن تقدم لنا مفتاحاً وتكشف لنا لغزاً، فهو بحساب السنين والأعمال التي قدمها كان وسيظل شاهد إثبات على البداية الحقيقية لتاريخ المسرح العراقي الحديث.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram