سعد أحمد
ذاكرة أكثر من جيلٍ لا تحمل ما يجعلها تقارن بين أحوال اليوم في السياسة ومظاهرها الفاسدة، وما كان يدور في أزمانٍ عراقية غابرة، قبل أن يصبح القتل على الهوية وتقاسم السلطة على قاعدة الانتماء الطائفي، وسرقة المال العام بمليارات الدولارات والتزوير، حاجة للستر والتدرج في وظائف الحكومة، والتبحر في الوضوء أطروحة دكتوراه ومقاماً رفيعاً في الدولة.
وقد كانت خيبة أجيالٍ عدة أنها عاشت في ظل أنظمة الحزب الواحد، والقائد الضرورة الاوحد، لينتهي الحال، بعد حولٍ من الاهوال، وأمل بتغير النحس الى عشيرة "ما ننطيها".
لكن نفس الحظ العاثر، أبقى على بعضٍ من جيل ذلك الزمن، او في الحقيقة، الزمنين، زمن الدولة الملكية التي بقيت أسيرة الاحتلال المكيّف، الإقطاعي، وزمن عبد الكريم قاسم الجمهوري الوطني. ومع ان الزمن الملكي المقيد بالرقابة "الاستعمارية"، والدوران في فلكها، لم يكن كل ما يجري فيه على ما يُرام، بل كان شديد القسوة على المعارضين بمقاييس تلك المرحلة، لا يتوانى عن فعلٍ اجرامي ضدهم، إلا ان الحياة لم تكن بكل جوانبها، تبدو قاتمة من خلال نظارات سوداء. والحمد لله ان اجيال اليوم لا تتذكر، وبالتالي لا تقارن ثم لا تتحسر على ذلك العهد الملكي، خصوصاً لمن ليس معنياً بالسياسة او مهموماً بمن يحكم، او طالباً الجاه في ظلال السلطة الحاكمة.
عهد عبد الكريم قاسم لم يستمر اكثر من بضع سنوات، من ١٤ تموز ١٩٥٨ حتى ٨ شباط ١٩٦٣. ومع ذلك يمكن لأبناء هذا الجيل ان يتلمسوا ما أنجزه في تلك السنوات المعدودات. ويكفي ايضاً ان يتأملوا في وطنية الرجل وزهده ونظافة يده، ويقارنوا ذلك مع ما عليه اصحاب "ما ننطيها".
عُرضت على نوري السعيد رئيس الوزراء، في ذلك العهد الملكي، مناقصة لتزويد الجيش العراقي بـ"البساطيل"، واحدة من الهند، والاخرى من بريطانيا "المتنفذة بحكم المعاهدة الاسترقاقية" التي كانت تربطها بالعراق. البساطيل الهندية كانت بجودة البساطيل البريطانية، وارخص منها. اللجنة المعنية بالاختيار كانت تتوقع ان يأمر "الباشا" بقبول العرض البريطاني، لكن المفاجأة غير المتوقعة حلّت حين طلب نوري باشا قبول العرض الهندي، لأنه جيد ورخيص، وهذا من مصلحة العراق!
لم تهضم اللجنة القرار، وانتظرت بضعة أيام قبل أن تنفذ ما أوصى به رئيس مجلس الوزراء.
بعد أيام تراجع نوري السعيد عن رأيه الأولي، وطلب قبول العرض البريطاني "الاغلى سعراً"!
المفارقة، أن محامي الدفاع عن غازي الداغستاني أمام "محكمة الشعب" التي تشكلت في عهد ثورة تموز لمحاكمة رجالات العهد الملكي، وهو المرحوم داود السعدي، وكان من الوطنيين المعارضين للنظام الملكي، روى واقعة البساطيل السعيدية امام المحكمة، وقال مستنتجاً "لقد تأكدت بعد تراجع نوري السعيد عن قبول العرض الهندي، انه عميل بريطاني"!
قلت للصديق المحامي وثاب السعدي (نجل المرحوم داود)، ونحن نستذكر الواقعة، مع ما يحيطنا ويصيبنا من فساد، ونهب، وغياب قيم: للاسف كان على الوالد ان يستنتج غير ذلك. كان عليه للأمانة التاريخية، ان يقول ان السعيد لم يكن فاسداً او مرتشياً..
ويذكر عن طاهر يحيى، احد انقلابيي شباط الدموي، واحد الذين أداروا ظهورهم للبعثيين مع عبد السلام عارف وقادوا معه انقلاب ١٨ تشرين ضد البعثيين، وقد اعتُقل بعد انقلاب البعث عام ١٩٦٨ في قصر النهاية، وأُجبر انتقاماً منه على تنظيف دورة مياه المعتقل كل يوم، بتفريغها ونقل محتواها على رأسه خارج المعتقل.. انه كان يهتف كل ما نقل البضاعة البعثية في الصباح: الحمد لله، حرامي ولا جاسوس، إذ كان مطمئناً لتهمة الحرامي، لأنها لا تحتمل عقوبة الإعدام!
بين عُهدة الوصي وموقف النواب منها، وبساطيل نوري السعيد، وما يدور في هذه الأيام السوداء، خيطٌ رفيع يستعصي على المقارنة..
يا لأيام المزَبّن و"نكهتها" التي تثير كل هذه الأشجان..!
"بساطيل" نوري السعيد و"عقود" وزارة الدولة الفاشلة "دافش"!
[post-views]
نشر في: 23 فبراير, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
khalid al jarah
الأخ الفاضل كاتب المقال بالطبع لا مقارنه بين رجال الأمس واشباه الرجال اليوم ..وأكون معك حين تصف عبد الكريم قاسم بأنه نظيف اليد وغادر الرجل ولا أرث له لكن ..من فعل بنا كل هذا اليس هو انقلاب 14 تموز 1958 وارجو ان لا تتكلم عن المنجزات اذا قارنا بين الانقلابا