أن تصبح كل أراضي المدينة متاحة لجور الجميع، أن تفقد الدولة العراقية في الوسط والجنوب وصايتها على كل مبنى ومعلم من معالم الطبيعة، على كل أثر تراثي وجزيرة وغابة وتل وبحيرة، أن تخرج الطبيعة بكامل بدائيتها، أناقتها بطيورها وأسماكها ووحوشها حتى من قبضة الدولة ومؤسساتها وجهدها الوظيفي.. قضية بحاجة لوقفة تأمل مسؤولة. ولن تكون قضايا مثل الأمن والاقتصاد وسواها حجة وذريعة لتركها العوالم هذه خارج عنايتها.
شرّع الأولون قبل مئات السنين قوانين وأحكاماً ظلت الدولة راعية لها حتى تحولت إلى أعراف وسنن التزم بها العامة والخاصة، فعلى مدى قرون ظلت الأنهار محمية من التجاوز، وظلت ضفافها آمنة مطمئنة من العبث والجور فقد شرّعوا مساحة تفصل ما بين الماء والشجر، سيّما النخل سمّوها (حرمة،حرماً) من التحريم، لأنها تشبه الحرام، ثم جعلوا من الجداول والأنهار قواسم بين البساتين والمنازل. وكانت لفظة الحُرمة والحَرم تعني وتدل على أن التجاوز عليها بمثابة التجاوز على الشريعة وما حرّم الله من الحدود .
حتى نهاية الستينات كانت أراضي وبساتين البصرة في أبي الخصيب والفاو والسيبة وشط العرب والقرنة والأهوار وسواها مستعمرات طبيعية لكثير من الحيوانات البرية والمائية، يلفها غموض من بدئية وأزلية الحياة، هو سحر نغم ومطر خيال وابتدار أمكنة. وحتى سنوات الحرب مع إيران كانت الخنازير الوحشية والذئاب وبنات آوى وعشرات الأنواع من الطيور المهاجرة والمستوطنة تضفي على الحياة في شواطئ شط العرب نوعاً من الألفة والتوازن والجمال. وظلت قصص الجدات والموقد الشتوي تغني وتخصب خيال الرجال والنساء والأطفال، شيء مما لا تستغني عنه الذاكرة. حتى تأسس تناغم حياتي هو مزيج بين الدهشة والخوف والفرح والطمأنينة، وظلت القرية التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن المدينة تغري ابن المدينة، تنعش خياله بجملة أسرارها التي تنطوي عليها أراضيها الشائكة نخلاً وكروماً وحلفاء وأنهارها الممتلئة بالماء والأسماك والطيور. كانت فكرة الغابة واحدة مما تبقى من بكورة الأرض. قبل ان تضيع إلى الأبد.
بئس الحضارة هذه، الغضب واللعنة على كتل الإسمنت والحديد التي يتبجح بإقامتها المسؤول العراقي على حساب جمال الطبيعة وبديع حسنها، على قتل خنازيرها والفتك بذئابها وطرد ثعالبها، وتفتيت الظلال فيها. لم تأت المَدَنية وحضارة المكينة على الطبيعة في مكان من العالم كما أتت عليه في عراق ما بعد 2003. وإذا كان صدام حسين قد خرّب منطقة الأهوار وجرف غابة النخل فقد أجهزت حكومات ما بعده على مساحات كبيرة في الفاو والقرنة وأبي الخصيب والتنومة. هناك سعي ودأب على تقويض كل ما هو أخضر، كانت طفولتنا تسير على وفق متوالية المشاهدة والمعاينة من جهة والقراءة والمعرفة من جهة أخرى وكنا نعثر في القرية والبرية والمسطح المائي على الكثير من ما نقرأ ونشاهد من الكائنات التي كانت تحتفظ الطبيعة بها لنا ، وتنغلق عليها ، لكننا اليوم نكتفي بالتلفزيون والصورة المطبوعة في المجلة والكتاب لكي يتعرف أولادنا عليها. هذا القطع بيننا والطبيعة، متوالية القص والقتل والتصحير ستحول دون كمال وجودنا الإنساني، نحن أبناء الدهشة والتلقائية والمديات المنفلتة . الحكومات هذه دمرت غابة الحلم، أجهزت على خضرة وينع أرواحنا.
هناك من يجد في كلام كهذا بطراً وقد يذهب آخرون إلى ان الحياة تتسع وتتحول ولا بد من نهاية صناعية ، وهذا زمن كشف الأسرار، والإنسان غزا الفضاء وما إلى ذلك لكن الحياة والمدنية بكل ماكنتها العملاقة لن تستقيم إلا إذا حافظت على الجبل والغابة والحقل والنهر والكهف. لن تتمكن القصور والصالات الواسعة والشرفات الأنيقة من إعطائنا لحظة البهجة كاملة ما لم تستعن بشلال المياه وتغريدة الطير وحتى من دمية الدب المحشو قطناً.
لحظة إنصات فاجعة
[post-views]
نشر في: 4 مارس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...