3-3
صحيح أن مصر لا تضم تعدداً إثنياً ودينياً وقومياً كبيراً مثل العراق، لكن الحالة الثورية بعد 25 يناير/كانون الأول 2011 تُذكّر كثيراً بما حدث للعراقيين بعد 9 أبريل/نيسان 2003، بعد دخول المارينز، أو بكلمة أفضل بعد تسلم الحاكم المدني الأميركي باول بريمر زمام الأمور في بغداد، عندما صحوا ذات يوم ووجدوا أنفسهم قوميات وطوائف وأعراقا وأديانا وأجناسا، وأن مجلس حكمهم الأول الذي أسسه الإمبراطور الكابوي القادم من تكساس، تناوبت على رئاسته كل شهر شخصيات مثلت طائفتها، حسب حروف الأبجدية لأسمائها! ديموقراطيات الأبجديات للعطار المتغطرس مثل الطاووس، بريمر، قابلتها في مصر تشريعات عجائبية بنقل السلطات، خاصة في فترة حكم إخوان المسلمين أو في فترة رئاسة الرئيس المعزول محمد مرسي، كرست الانقسام الشعبي والإثني والجنسي أكثر. حتى أصبح الحديث في مصر عن الـ "هم" والـ "نحن" مبالغاً به، دخل حتى الحياة اليومية للناس، يمكن سماعه في مناسبات عديدة، ولا يهم إذا تعلق الأمر باختلاف الأجيال: عندما تشكو سيدات مثقفات مصريات، كبيرات في السنّ "ثورية" الشباب من أبنائهن، الذين لا يحترمون لهم رأياً، على العكس "نحن" و "كل تمردنا لم ننس احترام رأي الآباء والأمهات"، أو عند تعلق الأمر بالحديث أو التمييز بين النخبة والرعاع: عندما تردد بعض النخب المدينية من متعلمين ومثقفين أصلها من القاهرة، الإسكندرية، المنصورة والسويس، قائلة "نحن الذين صنعنا ثورة 25 يناير، و"ليس الرعاع هؤلاء إخوان المسلمين الذين لا نعرف قدموا من أين؟"(كأنهم ليسوا من مصر، أو كأن الذين انتخبوهم شعب قادم من وراء البحار؟)، أو "نحن لسنا فاشيين وأصلاً نحن ضد عقوبة الموت"، لكن "إخوان المسلمين هؤلاء يستحقون الموت حرقاً!"، أو إذا تعلق الأمر بصناعة مسؤول عن الفوضى في البلاد وحكم إخوان المسلمين: "ألمانيا هي التي دعمت دائماً إخوان المسلمين"، أو "هلا قلت لي، لماذا تكرهنا رئيسة الحكومة الألمانية أنجيلا ميركل المصريين؟"، كما سألني عامل البار في مطعم وبار الغريون في وسط البلاد، (الذي على فكرة صاحبه عراقي يعيش في أستراليا الآن ويديره أخوه مكانه)، الذي يعرفني وأعرفه منذ سنوات.
في العراق كان الحديث عن تنوع العراقيين حتى 2003 تابو يمكن أن يقود صاحبه للسجن أو الموت، أمر نفسه يحدث اليوم في مصر، لكن الفارق، أن الإصرار على نكرانه ما زال حتى كتابة هذه السطور ساري المفعول. السلطة، المعارضة بكل أنواعها وأطيافها، إسلامية، ليبرالية، شيوعية، ناصرية، والمثقفون، كلهم يتحدثون باسم "شعب" مصر، الكلمة المبهمة هذه، التي الحديث عنها هو وهم، إذا لا يكون تعبيراً عن الديموغاجية والرغبة بالحكم المطلق لا غير. أمر لا يساعد المصريين بالخروج من أزمتهم. لأن ما يحتاجونه في المقام الأول، هو الاعتراف بتنوعهم، باختلافهم بالرأي، بأنهم منقسمون الآن إلى خمسة أقسام على الأقل: السلطة، أخوان المسلمين ومعهم السلفيون، شباب الثورة، المتفرجون (وهم الأغلبية الصامتة) وخامساً؟ خامساً: هم الأمهات والآباء الذين مازالوا يفتخرون بخدمة أبنائهم في الجيش والشرطة والأمن الداخلي "للدفاع عن النظام ومصر" كما تقول اللافتات المعلقة بالشوارع، إلا أنهم سيُصدمون، عندما سيعود أبناؤهم إليهم جثامين محمولة في توابيت. ولا يخفي على أحد، أن أغلبية الجنود المكلفين، الذين يشكلون قوى عسكر حفظ الأمن، قادمون من النوبة والقرى الفلاحية البعيدة!
فبدون الاعتراف بذلك، بدون الكف عن الحديث عن شعب موحد، وكل من يعترض هو دخيل (لكن في نفس الوقت يتسلم المتحدثون بذلك دعهم كل واحد حسب حزبه، من خارج مصر، من قطر أو السعودية مثلاً)، بدون ذلك، فإن الأرضية التحتية لإلغاء الآخر تكون قد جهزت. القنابل والسيارات المفخخة التي بدأت بالانفجار في شوارع القاهرة وفي مدن أخرى، هي بداية للسير على طريق بغداد. الإسلاميون يتحدثون عن فاشية النظام ،والعلمانيون عن نازية الإخوان المسلمين، والعسكر عن أنهم وليس غيرهم، حراس للأمن والنظام. وبين أولئك وهؤلاء، ينفتح الطريق بسعته للقاهرة السائرة باتجاه بغداد!
يُنشر المقال بالتزامن مع نشره في الصحيفة الألمانية زوددويتشه تزايتونع الواسعة الانتشار.
القاهرة السائرة على طريق بغداد
[post-views]
نشر في: 4 مارس, 2014: 09:01 م