TOP

جريدة المدى > عام > أسئلة التجديد.. بين الشائعة الثقافية وسسيولوجيا الأثر

أسئلة التجديد.. بين الشائعة الثقافية وسسيولوجيا الأثر

نشر في: 7 مارس, 2014: 09:01 م

ظاهرة التجديد الثقافي ارتبطت كثيرا بجدل الفاعليات الثقافية العراقية منذ أكثر من ستين عاما، وأصبحت جزءا من هواجسها واشتغالاتها الدائمة وربما هوسها الدائم وأسئلتها الأكثر ضجيجا، حتى بتنا لا نطمئن كثيرا للحظة الساكنة، الكل يتوق إلى المغامرة والنزوع إلى

ظاهرة التجديد الثقافي ارتبطت كثيرا بجدل الفاعليات الثقافية العراقية منذ أكثر من ستين عاما، وأصبحت جزءا من هواجسها واشتغالاتها الدائمة وربما هوسها الدائم وأسئلتها الأكثر ضجيجا، حتى بتنا لا نطمئن كثيرا للحظة الساكنة، الكل يتوق إلى المغامرة والنزوع إلى التجديد، حدّ ان البعض يتهم هذا المشهد بخضوعه الغريب إلى صناعة الشائعات، تلك التي كانت تتمظهر على شكل حكايات، وأسماء مضخمة، بيانات تعتور المشهد الثقافي العراقي كثيرا..
هذا الهوس بالتجديد وحتى الشائعة بأوهامه اصبح مثارا لأسئلة كبيرة، ليس في العراق وحده وإنما في المشهد الثقافي العربي.. الكثيرون يتساءلون عن حيوية هذه المغامرة العراقية، وقدرة الشعراء العراقيين خاصة عبر ظواهر جماعاتهم أو أجيالهم، على ان يكونوا حاملي مشاعل وسارقي نار بامتياز. الشاعر محمود درويش ربما كان الأكثر هوسا بتوصيف هذه المغامرة العراقية المولدة حينما قال(كن عراقيا لتكون شاعرا)
نزوع المغامرة الثقافية في الشعر والقصة ارتبط بنزوع آخر لكنه اقل هوسا، هو نزوع النقد الأدبي الذي دخل نوبة من الطوارئ أمام أزمة ملاحقة ومتابعة التغيرات الواسعة الحادثة في المشهد الثقافي العراقي، إذ حاول النقاد ان يصنعوا لهم بالمقابل الكثير من الاشتغالات والتثاقفات والنقود الإعلامية وربما البعض من الشائعات والظواهر الخلافية لكي يمارسوا لعبة الركض الباسل نحو ما يصطاده الشعراء والقصاصون من نجوم أو أوهام عابرة ومحتشدة.
اقتران هوس الثقافة العراقية الإبداعية بالتجديد والمغامرة يرتبط أساسا مع ظهور ملامح الحداثة الشعرية التي ارتبط بها هذا المشهد الثقافي العراقي منذ عام 1947 بشكل غريب، والذي تحول إلى حزمة من الشفرات التي أسهمت في إنتاج وتحريك اغلب التداعيات والظواهر التي تشكلت في المشهد الثقافي العراقي خلال السنوات اللاحقة.
لقد جسدت مغامرات السياب ونازك الملائكة والبياتي والبريكان وبلند الحيدري وسعدي يوسف ويوسف الصائغ وفاضل العزاوي وسركون بولص وغيرهم من الأجيال المغامرة، هذا النزوع المتدفق لفكرة المغامرة، إذ عبر عن صورته من خلال جملة من المعطيات الصراعية، والتثاقفات والشائعات، تلك التي تحولت إلى شفرات استيهامية لإشاعة الحداثة، ولحمولاتها الرمزية والثقافية، والى التعبير عن نوع من الامتلاء الثقافي..
كل هذا لم يسهم في صناعة صورة واضحة للتراكم الثقافي، إذ ظل المشروع الشعري مهيمنا، والموجهات الأيديولوجية ضاغطة، والشائعة حول مفهوم الحداثة عميقة الأثر في الوسط الثقافي الرخو، وأحسب ان اصطدام المشروع الثقافي بعد أحداث الستينات كان الفيصل في فضح خواء التأسيس، إذ ظل المثقف العراقي يعيش رعب السلطة، وفوبيا اللغة، وأوهام الحداثة..
ورغم ما اقترن بنشوء الظواهر الثقافية الإبداعية من علامات للتجاوز والتجديد، إلاّ ان التفاعل الحاد والتصارع الصاخب والهوس كان العلامة الأكثر حضورا من علامات التحول في وعي الثقافي، أسبابه وإشكالاته، الذي لم يضع في حسابه بشكل طاغ(رعب السلطة ورعب الأيديولوجيا وحتى رعب الحرب) ،لأن هذا الثقافي رغم مغامراته، وتجريباته وحتى نضالاته الاجتماعية والسياسية وصدماته كان في جوهره حلميا، ارتهن في الكثير من مغامراته إلى توليدات الوعي الشقي وحدوسه، فضلا عن تعاقاته بتاريخ الصراعات القديمة والانقلابات، تلك التي صنعت الكثير من الحوابس والتابوات البعيدة عن الأجواء المعرفية للثقافة أو حتى لأي شكل من أشكال الاستشراف لفكرة الصناعة الثقافية، إذ كانت خاضعة لتهويمات الانقلابات العشوائية أو العسكرية، والى طبيعة الصراعات فيها، الخاضعة إلى مرجعيات أيدولوجية وعشائرية في أكثر مظاهرها.
هذا التوصيف أسقط المثقف العراقي طويلا في منطقة الشائعة الثقافية، مثلما أسقطه في دائرة الأيديولوجيا الرومانسية الثورية التي تحولت إلى غواية كبيرة اكتشف الكثيرون من المثقفين خداعها بعد زمن الخيبات، ليمارسوا إزاءها وعيا نكوصيا، أو ربما نوعا من الهروب الجماعي من كل الأيديولوجيات باتجاه الحرية أو الذات، وربما باتجاه الآخر. وأعتقد ان هذا الهروب الجماعي هو الذي صنع الظاهرة الكبيرة للمنفى الثقافي المتشظي والذي أسهم في تفكيك الكثير من مكونات النسق الثقافي العراقي، رغم ان هذا المنفى لم يستطع ان يصطنع له هوية معينة، ولم يتحول كذلك إلى اندماج حقيقي في سياق ثقافة الآخر، كما لم يتحول إلى منفى منتج على طريقة أدب المهجر اللبناني، اذ عاشته الثقافة العراقية منذ نهاية السبعينات والى يومنا وهي مسكونة بنوع من الحنين والرعب واحيانا بنوع من الاستلاب الذي لم يستطع ان يصطنع له نسقا مقابلا يمكن قراءته بمنظور نقدي له مرجعياته وإجراءاته.
ماحدث من مناف وهجرات، وأزمات سياسية دامية وحروب عبثية وصراعات إثنية وقومية وطائفية تركت اثرها الكبير في المشهد الثقافي، ولم تحفظ أجنده الثقافي في ذاكرتها شواهد كبيرة لهذه الصراعات، لأنها كانت صراعات خارج نسق الثقافة تماما، تلك الثقافة النكوصية المشغولة بصراعات ضد اللاجدوى والاغتراب الوجودي والفلسفي ومواجهة اغترابية لأوهام الاستعمار والرجعية كما تصفها الأيديولوجيات الثورية طبعا..
أول تفكك حقيقي صادم لأيقونة هذه الثقافة، كان بسبب صعود الاستبداد السياسي، والديكتاتورية السياسية والأيديولوجية، تلك التي أسهمت في صناعة صورة ضدية للاغتراب الداخلي، أو ربما صناعة مقدمات للمنفى الثقافي، فضلا عن اصطناعها لظواهر مرعبة من العنف والطرد المنهجي، التي كانت المقدمة لتفكك اكثر خطورة ورعبا، تلك التي تجوهرت في ظاهرة الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي أنهت رومانسية الثقافة العراقية ورومانسية الأيديولوجيا العراقية، لأنها أسست لزمانات قابلة وطويلة من المحن ، الاضطهادات والمنافي والحروب المتوالية التي قادت بالضرورة إلى إنتاج عوامل احتلال العراق.
هذا التشكل المعقد أسهم في وضع الثقافة العراقية أمام أزمات بنيوية عميقة، أزمات طاردة، انعكست في أساسها على ظاهرة التجديد الثقافي، إذ أنها أسهمت في ترسيم محدد وقهري للخارطة الشعرية العراقية، وفرضت نوعا من التعمية على الكثير من أسماء المثقفين المجددين، هي لم تطرد شاعرا أو شاعرين، بل طردت الظواهر، هذه الظواهر العميقة الصلة بالمكان/البيئة والوعي، والعميقة الصلة بالسياق الثقافي المنتج والمجدد...
إزاء هذا التقاطع، وهذا الطرد القديم والتجدد، كيف لنا ان نعيد قراءة ظاهرة(التجديد) في السياق الثقافي بشكل عام والشعري بشكل خاص؟ وان يمكن ان ننقذ الثقافي المسكون بالرومانسية من الثقافي المتعين، والمقنع بصورة السياسي المسكون بالتوحش والهيمنة والقسوة، أم أننا نسعى إلى إنتاج أنماط ثقافية تملك شرطا اكثر قدرة على التناغم مع معطيات التحول، معطيات التشكل في مرحلة ما(بعد الطوفان)؟
وهل يمكن ان نغامر بالدعوة لاستعادة دور(القبائل الشعرية) التي صنعت هوسا ثقافيا كان يقف تماما بالضد من كل عوامل الموت والإرهاب والإقصاء؟ وكيف لنا ان نستعيد حقا عراقيا ضاعت خطوطه وملامح خارطته عند الكثير من المدعين والمنافقين الذين يمارسون الآن لعبة الإعلاملوجيا والتخندقات التي لا تحمل جديدا في مشروعها، سوى أنها تمارس لعبة استعادة الماضي بكل ما يعنيه من مهيمنات وأشكال ضاغطة وأغراض ميتة، ولعل البعض يحاول على خجل وتحت مهيمنات خارجية أيضا ان يسعى لاستعادة تشبه استعادة قطع آثارية ضائعة، لا فعالية لها سوى أنها ستكون جزءا من الاحتفال أو ربما جزءا من المتحف ذاته.
أحسب ان ممارسة حق الاستعادة والمجاهرة بها ليست بالبحث على طريقة التاجر المفلس! بقدر ما هي الرغبة الحقيقية باستعادة الدور وتفعيل كل الإمكانات التي تملك قدرة التأسيس ليس انطلاقا من الماضي، بل الحاضر، هذا الحاضر المزدحم والمكشوف والضاج بكل الأسئلة، فضلا عن الحرص على تنمية المسؤوليات الثقافية الفاعلة(الوطنية والإدارية)، تلك التي تقترن بإعادة إنتاج مسؤوليات التأهيل وبناء(المزاج) الذي أفقده الرعب والاستبداد ومغامرات الحروب روحه(الحية) .
هذه المسؤولية لا تعني نخبة أو طيفا أو جماعة دون أخرى، إنها جزء من(صناعة الوطن)و(صناعة المواطن) وصناعة(المتلقي)و(القارئ) وأظن ان هذه المسؤولية هي وحدها التي يمكن ان تضعنا الآن عند خط(الكشف) ليس حنينا لزمان الرومانسيات الثورية والثقافية والأيديولوجية، لكن باتجاه ان يتمكّن المثقف العراقي الجديد من البحث عن نسقه الضائع، مثلما يتمكن من ممارسة حريته واستقلاله وشهوته القديمة بالمغامرة، وحين نستعيد ما قاله الشاعر فإننا نستعيد ما يؤكد هذه الحقيقة، حقيقة الروح الحية، الروح الباثّة، الروح التي تستعيد سؤالها عند لحظة توهجها أو صيرورتها الديموزية، بعيدا عن ثقافات النمط التقليدي، وتجاوز عقدة ثياب الإمبراطور المثيرة للسخرية.
من المسؤولية بمكان أن ندعي هذا الحق، وأن ندافع عند، وأن نحرص على تأمل مشهدنا الثقافي الجديد كجزء من استعادة حقوقنا، المشهد الجديد ليس شاحبا أو غائما كان يدعي البعض من أصحاب المتحف، ان المشهد الذ ي يستعيد لعبة الحياة وشروطها، تصطخب فيه(قبائل جدد) تملك ذات الشفرة وذات الهوس والجموح، وأظن ان إعادة إنتاج ظاهرة قراءته الفاعلة، قراءة الجسد الشعري في لحظته الجديدة، هو الشرط الحيوي الذي ينبغي ان نعمل جميعا على استنهاضه وإدامته، شرط يرتبط بمسؤوليات وقدرات ومحركات أحسبها ستكون علامة على لحظة عراقية جديدة ينبغي ان ندافع عنها بمسؤولية وإرادة فاعلة، وان نزيل عنها بقايا التراب لكي نتوهج فيها ونغامر فيها صوب الحياة التي تستحق منا المزيد من الجمال والكتابة..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram