الخط الزمني العراقي الذي شغلني اليوم، يتحرك بين الاعوام ١٨٠٠ و١٩٤٣ و١٩٧٨. انها ثلاث نماذج للازمات كانت تختفي فتستبدل بأسوأ منها.
ففي القرن التاسع عشر كانت المشكلة التي تواجه الحكومات، هي صعوبة التنقل بين اطراف البلاد، وكيف تستقر بلاد وتشبع وتتكامل، بدون وجود سهولة حركة بين المناطق الرئيسية؟ وقد كانت السفن قادرة على ربط البصرة ببغداد، لكن باقي اجزاء دجلة ونهر الفرات بأكمله، لم يكن عمقها صالحاً لمرور سفن تجارية. ولذلك ظل العراقيون يجوعون مع انهم في بلد زراعي. وفي المناطق البعيدة عن المدن الرئيسية الثلاثة، وحتى عام ١٨٠٠، كانت الحنطة تتعفن في مخازنها، او تستخدم كوقود، بينما الناس في بغداد خصوصاً، يعانون من ازمة خبز.
ثم تغيرت الاحوال وتحسنت وسائل النقل وتوفر الخبز للجميع وصرنا نصدر القمح الى العالم، وحصلت نهضة معروفة في العهد الملكي، لكن اشارات عديدة راحت تؤكد ان البلاد ينقصها شيء كثير لكي تصبح دولة بمعنى الكلمة. ففي عام ١٩٤٣ كان هناك ٢٠ الف جندي هارب من الجيش الذي لا يتجاوز تعداده ٣٠ ألفاً.
وبعد ان نمشي قليلا على الخط الزمني، وإثر مخاضات ومسالخ، بدا ان الدولة استعانت بكل اسلوب مشروع وغير مشروع، كي تصنع الاستقرار القسري، فشبع الناس، وحصل انضباط (في الجيش وخارج الجيش)، وتحقق استقرار يلفت انظار العالم كله، وصولاً الى السبعينات، حيث تختفي المحن القديمة، بيد أن عيباً رهيباً اخذ يطل برأسه ويشعل المخاوف. فالانظمة التي جاءت لم تكد تبدأ بتنفيذ وعود تحسين الحياة، حتى انهمكت في سياسات طفولية مخيبة. وكم يحق لنا ان نسخر ونبكي ونحن نقرأ ما تناقلته صحافة العالم ايام الحرب الباردة، عن رئيس العراق يومذاك. ففي ١٩٧٨، هدد احمد حسن البكر بقطع العلاقة مع الاتحاد السوفيتي، والسبب ان موسكو كانت تدعم اثيوبيا ضد الاشقاء الاريتيريين! وكانت نهاية "الطفولية" معروفة.
وحين أستخدم تعبير "سياسات طفولية" فلكي اطرد تعبيرات من قبيل "المتآمرين، والخونة، والرجعيين، والعملاء" وهي اوصاف قامت بتضليلنا وتأخير فهمنا للمشاكل العويصة. لا، لم يكن الزعماء اشراراً ولا عملاء بهذه البساطة، بل كانوا غير ناضجين، يخوضون غمار الحرب الباردة، بوسائل اريتيرية، وعداوات اثيوبية، وهلم جرا.
ماذا بعد؟ لازلنا على تواصل مع السياسات غير الناضجة، بعد أنهار من الدم والأخطاء، واليوم لا يعاني رئيس الحكومة ولا الوزراء، من هروب ثلاثة ارباع جيشهم، لكنهم يشغلون الشعب المحاط بالموت والخوف، بحكايات نجل العامري وابن المالكي، وكأن "الطفولية" قدر يجرنا نحو القاع ونعجز عن تصحيحه، وعن التمييز بين الاحمق والحكيم، والأعته والمدبّر، حين نختار رجالنا.
لقد كان اليأس والعجز مخيمين على هذه البلاد، مرات ومرات، وقد نجحنا في تلافي الكبوة مرات كثيرة، وكنا نحتج ونثور ونموت، ونعيش التغيير تلو الآخر، لكن هناك شيئاً لم يتغير تقريباً، وهو وجود عدد اكبر من اللازم، من ناقصي الحكمة، يخربون الفرص أو يعطلونها، وفي النهاية يهلكون ويهلكوننا معهم.
ان ما ينقصنا هو تمرين كبير للانتقال من اخلاق التغلب والقوة الطفولية المكلفة، الى اخلاق التعايش والتفاوض وضبط الحسابات بدقة. ان نتحول من مجرد طامعين بدور تسلط بطولي، الى حكماء نختار الطرق الاقصر لسد المشاكل، والتفرغ للبناء ومحاولة اللحاق حتى باليمن والاردن اللذين سبقانا في مجالات كثيرة. ترى (وحتى لو كنت تبسيطياً هنا) هل يمكن ان نشتري جهازاً لقياس العمر العقلي لزعمائنا، كشرط للترشح للانتخابات، بدل كل الاجهزة الاخرى التي نشتريها؟
أتذكر ان اوباما تفاخر في حملته الانتخابية، بأن معدل ذكائه ١٤٠ (اقل من انشتاين بعشرين درجة)، فهل في وسعنا دعم حملة وطنية لقياس عقول زعمائنا، قبل ان يهرب ثلاثة ارباع الجيش (والشعب) مرة اخرى؟
٢٠ ألف هارب من الجيش!
[post-views]
نشر في: 8 مارس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 5
ياسين عبد الحافظ
يعجبننى كثيرا الجمع بين الجغرافية والتاريخ والاجتماع و(الانثروبايولوجى) احب ان اعلق ,لم يحصل ابدا ان صدر العراق الحنطة على حسب علمى فى احسن سنين الانتاج 1958 اكتفىذاتيا ,فى اخر حروبه الدموية مع ايرن وداخله(كرد وشيعة والسنة)حسمت الصواريخ ارض ارض الموضوع وك
الناصري
هههه عيني انريد مرشحين لديهم شهادة بكلوريوس غير مزوره بغض النظر عن مستوى ذكاء المرشحين .... !!!!
نصير عزيز
انا من وجهة نظري : اننا في هذا البلد المتحجر الذي فيه كمية النفايات والتطير ..والتناقض وتاليه الاشخاص وعبادتهم لا يمكن للافكار والمعتنقات والفلسفات المغايرة ..ان يكتب لها النجاح على الاطلاق ؟ لاننا جبلنا هكذا .. كيف تعرف باءنك عراقي .. بالتطرف في كل شىء
نصير عزيز
الاخ العزيز سرمد .ارجوا ان تسمح لي بالصراخ من فضلك ارجوك ..عن اي وهم نتحدث وعن اي اكذوبة نصدق ..عن اي وطن نتحاور ؟ اين الوطن ؟ اين الانسان ؟ بل اين الحقيقة ؟ اشكر الله بان هناك بقية من انامل وافكار مجرد افكار ؟تكتب وتتحاور حتى وان كنا لانفهم بعضنا ..اجوا
ابو سيف
مايحتاج له رجالات الحكم لدينا ليس قياس العمر العقلي لهم قبل الانتخابات بل التحقق من مدى توفرهم على نمط محدد من الذكاء هو الذكاء الانفعالي المقترن بالقدرة على وضع رؤية مستقبلية لما يجب ان تكون عليه بلادهم بعد كذا سنة بوصفهم رجال دولة لا محبي سلطة,