في لحظة غرام نادرة بالطبيعة، في البصرة، المدينة التي يقصر الاحتفال فيها بالربيع حتى لا يكاد يشعر به احد، في الحضن الأخضر هذا حيث، أجلس مؤانسا من الألوان والزهر والطير والشعر أيضاً، يُكمل المشهدَ هذا مقطعُ اليوتيوب الذي وضعته السيدة الكبيرة، الروائية المبدعة لطفية الدليمي على صفحتها باختيار لا أجمل منه، رحت أسمع العظيم يوسف عمر وهو يشدو من شعر إلياس أبي شبكة:
ما لي أرى القلبَ في عينيكِ يلتهبُ أليسَ للنارِ يا أختَ الشَّقا سببُ
بعضُ القلوبِ ثمارٌ ما يزالُ بها عُرفُ الجنانِ ولكنْ بعضَها حطبُ
في اللحظات النادرة هذه قلت لماذا لم يتبغدد الذين قدموا بغداد من قرى وقصبات وسط وجنوب العراق، لماذا لا يشعر احدُنا من العراقيين وسواهم بقيمة بغداد العظيمة التي كانت يوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن خضر وشارع الرشيد والمتنبي والكرخ والرصافة وتمثال أبي نؤاس وساحة كهرمانة وجدارية فائق حسن وقصيدة دجلة الخير وسواها من عشرات المنازل والمقامات والشواطئ والحيطان والأسوار تشكل العلامة الوحيدة لسكانها. الدالة الكبيرة عليها، بغداد التي لم يبق منها سوى لحظة تذكر نادرة في القلب العربي والدنيوي اليوم .
يزيد كدري كدراً خبرُ عودة طائرة الميدل أيست التي أجبرها (الفصَّوع) -بلفظ أهلنا في الجنوب- نجل وزير النقل هادي العامري على العودة لمطار الحريري لأنها لم تنتظره، ويكدّرها(لحظة ربيعيّ البصرية)انَّ محافظ البصرة يكرر خطأ سلفه مع الفنانة الكبيرة فاطمة الربيعي بغلِّ يده إلى صدره لحظة مدّت يدها لمصافحته، يكررها (المحافظ الحالي) مع إحدى الدبلوماسيات الأوربيات التي مدت يدها لمصافحته. وبين خبر إصرار( العجي)- بلفظ أهلنا في الموصل- مهدي العامري على عودة الطائرة وعدم مصافحة محافظنا للسيدة تتكرر عشرات الصور المشوهة التي تضيع معها مدن وحضارات ومعالم حتى أني لأسخر من لحظة مدينة عظيمة مثل البصرة بمجدها الكبير، كيف تدار بعقلية القرون الوسطى هذه !!
من قال بان الرجل لا يصافح المرأة ؟ من أوهمنا بهذه ونحن نجتاز عتبة العقد الأول من الألفية الثالثة، بل ونحن نحتفل بعيد المرأة العالمي. كيف أوهمك البعض يا صديقنا النصراوي بأن مسك يد المرأة نجاسة، حرام، إقلال من شانكَ، من شأنها؟ كيف تصورت ذلك وأنت المستعين بشركة هيل انترناشيونال لبناء البصرة التي تحكمها اليوم؟ وأنت تتطلع لمدينة أوسع واهم واكبر من دبي؟
يجد الكاتبُ نفسه أحياناً، مجبرةً على الاستعانة بقراءة التاريخ، ومن يقرأ تأريخ الحواضر العراقية الكبيرة ( بغداد والموصل والبصرة) لا يخطئه علمه في ما يكتب الآن، إذ من غير المعقول ان يكون السيد طالب باشا النقيب، سليل العائلة الهاشمية، المرشح الأول لعرش العراق عام 1921 على غير هدىً ودراية بدينه، وهو يسافر لفيينا مستمتعا بالموسيقى حيةً من على مقاعد مسارحها، ومثل ذلك نقول عن باشوات بغداد والموصل وولاتها خلال قرن من الزمان، ساعة لم يكن التشدد قد بلغ بأحدهم حد امتناعه عن مصافحة النساء، ولو على سبيل الدبلوماسية.
لا يمكن تصور بغداد وسواها من الحواضر عبر صور ممثليها في البرلمان والمقاعد السياسية- الدينية، حيث لم يبق من تأريخ رجالات البرلمان آنذاك سوى سخرية الملا عبود الكرخي منهم. ولم يبق من التدين والزيف سوى كتاب "الشخصية المحمدية" للرصافي ومهما بالغ هؤلاء -أمس واليوم- في تلميع أشكالهم ستظل صورة بغداد هارون الرشيد وأبي نؤاس والمتنبي والشريف الرضي وإسحق الموصلي وزرياب وصولا إلى يوسف عمر وناظم الغزالي وحتى مائدة نزهت ورضا علي هي الصورة التي تتقدم المدينة . وما قدمه الرصافي والزهاوي والصافي النجفي وجلال الحنفي وعفيفة إسكندر وجواد سليم وفائق حسن وطه باقر وفرقة الإنشاد وحافظ القباني و..و..و وسواهم لا يمكن مقارنته بما قدّمه كل محافظيها وأمناء عاصمتها من الحاج خير الله طلفاح إلى صلاح عبد الرزاق وإلى كامل الزيدي حتى عبعوب، صاحب الصخرة الكبيرة.
كنا نأمل ونحن على أعتاب الستين بالتنعم بما في يد الطبيعة من بهاء وجمال وعذوبة، وكنا نحلم ببغداد ارقى وأرق وأجمل، نحلم بمدنية تجعل من الموسيقى والربيع صورتين متعانقتين لحياة لا أجمل منها. لكن ذلك لم يتحقق . لا بل كانت صورة المشهد الحالي اكثر قساوة على قلوبنا نحن المسكونين بالشعر والموسيقى واللحظات الربيعية .نحن أبناء بغداد والموصل والبصرة، الذين لم تتخشب أرواحهم بعد .لكننا لا أقول أكثر من ما قاله إلياس أبي شبكة :
قولي لهُ(لها): عِفّةُ الأجسادِ قد ذهبتْ مع الجدودِ الإعفَّاءِ الأُلى ذهبوا
بغداد والربيع في البصرة ويوسف عمر
[post-views]
نشر في: 8 مارس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
هدى عبد الله أحمد
فرحنا كثيرا بزوال الدكتاتور وما لبث الحزن يتملكنا ونحن نشهد صعود طبقة حاكمة من دجالي الاحزاب الدينية التي نهبت البلاد وسلمتها هدية على طبق من ذهب لإيران وتحاول هذه الاحزاب اليوم إدخالنا في نفق من المفاهيم المظلمة التي أكل عليها الدهر وشرب وما تلك التي ذكر
ملاك
من المؤسف أن كل الافعال التي تنم عن جهل أو تخلف توسم بالتدين او التفقه!
خليلو...
شكرًا ايها العزيز طالب عبد العزيز لما أسديت لنا من احسان وفضل إذ عدت بنا الى العالم الذي عشنا لذاذاته مما متعتنا به من أنغام والوان وكلمات شكرًا لك وللفضلى لطفيه والخالدين فائق حسن ويوسف وعمر ابي شبكه وتعسا لمن يأبى مصافحة امرأة وللزمان الذي عاد بنا م