للحرب العالمية الأولى شعرٌ وشعراءٌ ارتبطوا باسمها، باندفاعة جيل أراد أن يجدَ بها خلاصاً، أو بوابةً لعصر جديد.. ولم تكن اندفاعتُهم إلا حماقة، وقصائدُهم إلا شاهداً تراجيدياً دامياً.
لم تحدث الظاهرةُ ذاتها مع الحرب العالمية الثانية، فالأجيال المتأخرة لم تعد تشعرُ بأن لها دوراً في ما يحدث، وكما قُتل في الأولى شعراءٌ قتل في الثانية، ولكن من دون رغبة في المشاركة، وتحت غطاء الصمت والنسيان.
دار "كارْكنيت"، تقدمُ أحدَ هؤلاء الشعراء. تحاولُ بعثه من تحت ركام الصمت، لأنه شاعرٌ يليق بهذا البعث، فهو موهبة رائعة بالرغم من أنه قتل ولم يتجاوز الثانية والعشرين. وقصائدُه المجموعة لا تغطي أكثر من سنواتٍ خمس، هي كلُّ سنوات تجربته الشعرية.
كان سدني كيس (22 19 ــــ 1943) من منطقة كَنْت جنوبي إنكلترا، ومن عائلة لم توفر له منذ طفولته المبكرة احتضاناً ولا رعاية، فقد توفيت أمُّه بعد ولادته بأسابيع، وتركه أبوه تحت رعاية جده الفلاح الحنون، وكانت مرثيتُه له أولَ قصيدة لسدني في مجموعة شعره:
«نيسان مرةً أخرى، وسنةٌ تعبر
منذ خطوت خارجاً وأغلقت الباب
تاركاً إيّانا مشبكين بكلماتك..»
منذ صغره كان سدني معلولاً ونبيهاً، ولقد دفعه هذان العاملان إلى الكتاب، وإلى الانطواء داخل عالم من صنع مخيلته، مع ميلٍ إلى الطبيعة. كانت مرثيتُه لجدّته أولَ محاولاته الشعرية وهو في السادسة عشرة. في عام 1939 زار فرنسا ففتحت له أفقاً شعرياً جديداً، وأصبحت أشياءُ الطبيعة فيه تنطوي على معنى وراء الظاهر.. اعتماد المعرفة الحسية لديه ضروري، فهو وحده الذي يوصل شعرياً لغير الحسّي. وهذا ما وجده لدى الرمزيين، ولدى ريلكه، ييتس، والرسام الجريكو، والموسيقي الفنلندي سيبليوس.
ولكن الشاب الذي افتقد العائلةَ والصحةَ، ومالَ إلى الانطواء وعالم المخيلة، بدأ ينجذبُ إلى فكرة الموت السحرية، عبر قراءاته للأدب والفكر الألمانيين، ولريلكه بصورة خاصة. زال لديه الخطُّ الفاصلُ بين عالم المخيلة وعالم الواقع، وعالم الحب والموت:
"قلتُ إن الحبَّ قفرٌ يباسٌ، وهذي العظام
ليست دليلَ فشل، بل دليلُ موتِ الشباب
قلنا، عليك أن تعدَّ النفسَ للصحراء
حتى بين البساتين المرصّعةِ بالأزهار
والربيع، أو لحظة اليقظة
حين يستدير الرجل للمرأة وكلاهما خائف
كلُّ راغبٍ بتغيير حياته واجدٌ صحراء.
العاشقُ، الشاعرُ، الفتاةُ التي تحلم بالمخلّص
والراكضُ المتوّجُ بإكليل آخر:
جميعاً سيواجهون الشمسَ، وصحراءَ الحجارة الحمراء،
وسيرَون احتراقَ الطائر المعدن..".
دخل كيس العسكرية عام 1942، وكأنه أراد أن يربط مصيرَه بالواقع الأرضي بصورة نهائية. على أن الشاعرَ فيه ظلَّ يرى معنىً أبدياً، كامناً في العالم الفيزيائي هذا. تجد ذلك معبَّراً عنه في قصائده بصورة جليّة، حتى مقتله في إحدى الفاعليات العسكرية في سيدي عبد الله ــــ تونس، في 29 أبريل (نيسان) 1943.
النزعة الرمزية في ربط الفيزيائي بالروحي أصبحت أكثرَ كثافةً في القصائد التي كتبت وهو جندي في أتون الحرب، خاصة في القصيدة الطويلة "البوابة الغربية"، التي هي أولى قصائده في هذه المرحلة:
"أعمدةُ ضبابٍ تُحدد ملامحَ البوابة
تمنح ممراً للهارب الفاني،
إطلاقاتٌ تحيّي نهايةَ المقاتل المُقاد بضوء القمر
قذائفٌ مدوّيةٌ تفصل هواءَ السجن
وتوقظ الجنديَّ الساخطَ من أحلام الكراهية المصطنعة
فلتقرأ أيها الواعدُ رسائلي المنتصرة:
"ادخلوا يا كلَّ العشاق مع الشفاه التي قبّلتم،
معلّقةً كالأساور على ذراع دخان
أو ناطقةً بأفواه أجراس خشنة
بفعل ذعركم عند البوابة الغريبة"..
طبقة الصوت هذه تتخلل كل قصائد الحرب، رمزيةً ودرامية، مع دم رومانتيكي حي في القصيدة الإنجليزية عادة.
جميعاً سيرون احتراق الطائر
[post-views]
نشر في: 9 مارس, 2014: 09:01 م