لم يكن الشيخ محمد رضا الشبيبي مجرد سيرة حافلة بالمواقف الوطنية، بل كتاباً غنيا لحقبة من الزمن الجميل، كان الشبيبي يريد دولة تقوم على العقل والأخلاق السياسية والاجتماعية وكرامة الإنسان، كان ذلك جيل الاجتهاد والبناء والذمة والخوف من محاسبة الضمير، جيل آمن بأن العراق لوحة كريستال جميلة، إذا فقد جزءا منه فقد مبررا وجودة وتناثر.
لم يقرأ ماركس ولا انجلز لكنه أول من نادى بمبدأ العدالة في توزيع الثروات، اقترب من روسو، وامن مثله بان صلاح الأوطان من صلاح أبنائه.... وعندما عين وزيرا للمعارف عام 1924 تذكر انه قرأ في كتاب روسو إميل أو التربية الذي ترجمه آنذاك عادل زعيتر هذه العبارة: "إن التعليم ينبغي أن يعطي النفوس القوة الوطنية، وتوجيه آرائها وأذواقها بحيث تكون وطنية بالرغبة والعاطفة والضرورة" كان أهله وأصحابه في النجف يقفون بشدة ضد تعليم المرأة، فيما ظل هو يحث الخطى لافتتاح مدرسة بعد اخرى لفتيات العراق، اليوم نرى كم هي المسافة بعيدة بين سياسي بحجم الشبيبي، وساسة لا حجم ولا طعم لهم.. يكتب طه حسين في رثاء صديقه الشبيبي عام 1965 " كان اشد الناس انصرافاً للقراءة والبحث والتفكير.. ورغم هذا كان صاحب خيال، ومن شأن الخيال ان يصعد بصاحبه السماء بجناحيه؟ فاجتمعت به الخصلتان الفكر والخيال وهذه ميزة الفلاسفة وميزة العلماء"، ونحن نقرأ سيرة الشبيبي اليوم نجد من الصعب أن نحدد إذا كان الشبيبي النائب يتصرف داخل البرلمان باعتباره ينتمي إلى الطائفة الشيعية، أم إلى حزب بعينه.. يبدو ذلك مستحيلا، بل من المحظورات أن تجد رجلا بحجم الشبيبي يتحدث بالطائفة والعشيرة والمكون.. لا يمكن ان يحسب السياسي على طائفته إلا في زمن أمراء الطوائف ومراهقي السياسة.. زمن أصبح فيه كل شيء سهلا؟، المال العام أصبح خاصا، والمنصب لا يسعى إليه من خلال الاجتهاد والعمل والخبرة بل الوسيلة إليه هي التزوير والانتهازية والمحسوبية.. اختلفت القواعد وانقلب الأمر.. ونسي الذين جاؤوا برعاية الأمريكان أنهم أشعلوا الحرب بحجة الدفاع عن مصالح العراقيين وبناء مجتمع امن مطمئن شعاره العدالة الاجتماعية يديره أكفاء، أين الأكفاء اليوم؟.. وأين هي شعارات التغيير التي رميت في أول سباق للحصول على المناصب والغنائم، ينتمي محمد رضا الشبيبي الى صف طويل من الرجال كانوا يمثلون العراق الحقيقي، أدركوا معنى أنهم يعيشون في بلد متنوع فسعوا إلى بنائه بالجد والعمل والحلم.. أقاموا الجامعات والمتاحف والمعامل، وبسبب من عقول امثاله ووطنية رجال مثل ساسون حسقيل ومعروف الرصافي ومصطفى الالوسي وناجي السويدي وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون والزهاوي ومحمد الصدر والكرملي وسواهم، بدأ العراق يأخذ مكانته واستحقاقه، لم يولد ضعيفا بل اخذ يتقدم الدول الأخرى في الامم المتحدة، شريكا وعضوا مؤسسا وفاعلا في الجامعة العربية، اراد له ساسته ومفكروه ان يكون وطنا للتسامح والتعايش.. كان ذلك زمنا قال عنه الفرزدق يوما:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
في واحدة من ابرز مواقفه في البرلمان عام 1949 يقف الشيخ الشبيبي خطيبا ليقول "كان من المقرر تقريباً أن ينظر في الدستور. أقول وقد ذكرت قصة لإحدى قبائل الجاهلية في الزمن القديم، أنه كان لهذه القبيلة الجاهلة رب معبود، تتخذه من التمر وتعني كثيرا بتزويقه وتزيينه، فتجعل يده من تمر لونه أحمر وتصنع رجليه من تمر لونه أصفر، وتجعل رأسه من مختلف الوان التمور. أما العينان فتختار لهما لونا من التمور قشرة براقة لتوهم أن لها بريق العيون. وأن هذه القبيلة الجاهلية، اذ مرت بها سنة خير ورفاه- وفصل الخير عند البدوي وغير البدوي- أن يتوافر الكلاء وأن تجني الكماه، كما جنيناها هذا العام، فاذا مرت سنة من هذا القبيل سلم الرب من الأذى، وأما إذا مرت سنة مجدبة، فان ذلك الرب المسكين تعرض إلى الأذى، فتثور القبيلة وتهجم على ربها وتأكله، لذلك قال الشاعر: أكلت حنيفة ربها... عام التقحم والمجاعة.
فما أشبهنا في مواقفنا من الدستور والقانون، بين الاحترام والتقديس وبين النسيان والتعطيل، من موقف تلك القبيلة من ربها، فطوراً تقدسه وطوراً تهجم عليه وتأكله.
اليوم يريد لنا البعض أن نصبح مثل القبيلة التي أكلت ربها، بلاد لاشيء فيها سوى الازمات والمحن.. دولة لا مكان فيها لابن محمد رضا الشبيبي "سنان الشبيبي".. لا مكان لكفاءات نادرة تعيد صياغة الامل للناس.. فقط المكان والمكانة لسياسيين يتبارون في الضحالة والفساد والطائفية.. لا نستطيع استعادة محمد رضا الشبيبي ولا العودة الى زمنه، ثمة شعور مخيف بالكارثة والمأساة.
متى نعتذر للشيخ الشبيبي؟
[post-views]
نشر في: 19 أكتوبر, 2012: 07:26 م
جميع التعليقات 3
Dr. Muhsin Al-Shabibi
This is a wonderful article.. Thank you Mr. Hussain. Many of the politicians today came to power without the proper credencials,are short sighted and grabbers to any opportunity to loot and fill their pockets .
عامر الصالح
كان نقطة بيضاء في رداء اسود ... هنيئا لهم بالسواد
د. فاضل عباس مهدي
شكرًا على مقالك الرائع هذا استاذ علي حسين لقد هدم صدام الدار التراثية للشيخ التنويري الشبيبي وقتل ابنه الاكبر الشهيد اسعد بعد اختطافه وها هي ما تسمي نفسها دولة للقانون تحاول الاغتيال المعنوي لابنه الاصغر ما هذا البغض للتنوير في أوساط الجاهلين الذين يحكمون