بعد الهدوء الظاهري الذي ساد جوار روسيا، عقب تجربة التدخل العسكري في جورجيا، وتقاعس الغرب حيالها، وخفوت الحركات المناوئة لسيطرة موسكو في عدد من الجمهوريات، المنضوية رغم أنفها في الاتحاد الروسي، باعتباره الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، اندلعت أزمة أوكرانيا، لتضع قيصر روسيا الجديد المتنمر أمام خيارين، أولهما الدفاع عن نفوذه في الجارة القريبة، ولو من بوابة شبه جزيرة القرم وبما يهدد وحدة التراب الأوكراني، أو القبول بمجاورة الأطلسي، مع ما سيكون لذلك من ارتدادات قد تقوي عضد معارضيه، وهم ليسوا قلة، خاصة إن أضفنا إليهم دولاً كانت بعض الاتحاد السوفيتي العظيم، ولا زالت ذاكرة ربيب الكي جي بي تحتفظ بذكريات هيمنة موسكو عليها، وتتحسر على زمان كان فيه سحق ربيع براغ قضية داخلية.
لم يتأخر الدب الروسي عن الجهر بموقفه، بعد أن تأكد من طبيعة المواقف الدولية، حول ما يجري في قلب أوروبا، كان رد أوباما باهتاً، حين توقف عند حدود اعتبار التصرف الروسي انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، وكان الرأى الأوروبي أن على روسيا أن تجنح إلى السلم، ما دفع سيد الكرملين للإقدام على مغامرة عسكرية محسوبة النتائج، ما دام ساكن البيت الأبيض يؤمن بالديبلوماسية لا غير، ويؤكد عدم رغبته بالانخراط في الحلول العسكرية، وكأنه يقرر نهائياً أن على بلاده الاهتمام بمشاكلها الداخلية، ومادام الاتحاد الأوروبي في حال عجز وشلل عسكري، رغم كونه عملاقاٌ اقتصادياً، وكان قراره السياسي خلال أزمات دولية شبيهة، الاعتماد فقط على عضلات رامبو الأميركي، الذي شاخ وفقد القدرة على الانتصار، بعد فقدانه إرادة القتال والمواجهة.
على وقع خطوات الجيش الروسي وهي تدق أراضي شبه جزيرة القرم، في مواجهة الغرب المتردد والخائف، يبدو أننا نراقب إرهاصات ولادة نظام عالمي جديد تقوده روسيا والصين، وتدور في فلكه دول هامشية من أطراف العالم، وبما يعني إعادة رسم التحالفات الدولية، وصياغة أسس جديدة للنظام العالمي، تختلف جذرياً عن تلك التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، وبما يعني أيضاً رسم خطوط حمراء تتولاها موسكو وبكين، تمنع عالم الغرب من تخطيها، للانتهاء مرة واحد وإلى الأبد من نتائج تلك الحرب، القائمة على أساس عدم المساواة في موقع القرار الدولي، وبما يؤدي إلى إعادة صياغة ودور المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من منظمات، وإعادة صياغة الاقتصاد العالمي بما يُفقد المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية القدرة على التأثير، ورسم مصير الكثير من المناطق في هذا العالم.
الواضح اليوم أننا في الطريق إلى عالم جديد، تمتلك فيه القوتان الروسية والصينية حق التمتع بمناطق نفوذ، وأن تُسيّجا لها حدائق خلفية، تنطلقان منها لمطاردة أي معتد على تلك الحقوق، وفي فلكهما ستدور دول كثيرة بعد دراسة مواضعها في الواقع الجديد، وستختلف أنماط العلاقات الدولية، لنشهد اخرى مبنية على أسس اقتصادية، مغايرة للأسس الأيديولوجية التي سادت ثم بادت، وسيشتد التنافس المحموم على المصادر الطبيعية، وسيدفع العالم الثالث ونحن منه طبعاً أثمان ذلك، كما دفعها نتيجة صراع المبادئ بين القوى العظمى، الطامحة في آخر الأمر للسيطرة على العالم بأي وسيلة، ولو كانت غير أخلاقية ولا تمت للإنسانية بصله، فهل يدرك العُربان قادة وشعوباً ذلك، ليبنوا على النتائج المتوقعة كما فعلت اليابان، أم يواصلون حروب داحس والغبراء، المستمرة منذ مئات الأعوام.
أوكرانيا تقلب المعادلات
[post-views]
نشر في: 10 مارس, 2014: 09:01 م