TOP

جريدة المدى > عام > المكوّن الدلالي وكيفية توظيفه في السينما

المكوّن الدلالي وكيفية توظيفه في السينما

نشر في: 12 مارس, 2014: 09:01 م

العالم مكوّن من (دوال/ أشياء). هذه الحقيقة التي فرضتها العقلنة اللغوية للعالم جعلت من مكونات العالم أشياء فاقدة لذاتيتها، وهي مجرد مواد بين يدي الإنسان يصوغها كما يصوغ تصوراته عنها. وإذا كانت هذه الدوال خاضعة في الأصل للعب الإنسان بها فإنها صارت بعد

العالم مكوّن من (دوال/ أشياء). هذه الحقيقة التي فرضتها العقلنة اللغوية للعالم جعلت من مكونات العالم أشياء فاقدة لذاتيتها، وهي مجرد مواد بين يدي الإنسان يصوغها كما يصوغ تصوراته عنها. وإذا كانت هذه الدوال خاضعة في الأصل للعب الإنسان بها فإنها صارت بعد اكتشاف الكتابة مستقلة إلى حدّ ما من هذا اللهو، وربما صارت تتلاعب بالإنسان هي الأخرى من خلال حيرته أمام النصوص تأويلاً وقراءة ناهيك عن مشكلة إنتاج النصوص نفسها.
وإذا كانت فكرة التفكيكية المبدئية تقوم على حرية الدوال خارج مستعملها فإن الحقيقة الساطعة هي أن الحرية أصل في الدوال وإن لم يفهم الإنسان ذلك حقبة طويلة من تاريخه. والمشكلة الآن ليست في حرية الدوال بل في ما أكسبه التاريخ الإنساني من التثبيت والاستعمال والنفي والإثبات لتلك الدوال فصارت معبرة عنه وليست معبرة عن ذواتها. فالسلطة اللغوية المدعمة بالسلطة العقلية فرضت على حرية الأشياء/ الدوال في العالم قيوداً تقرب من الاستعباد على وفق موجهات استعلائية وليست حوارية. بمعنى أن الإنسان تعامل مع العالم على أنه خادم له، وليس نداً ينبغي محاورته وليس استعباده واستغلاله. وبسبب من هذه النظرة الاستعلائية التي يحملها الإنسان تجاه الأشياء في الوجود كان اختزالها إلى دوال لفظية سبباً في تغييبها. والحرية التي تدعو إليها التفكيكية اليوم ليست حرية الدوال بل حرية التصرف بها، فهي عند التفكيكيين، كما كانت عند غيرهم ليست سوى ألفاظ تختزل العالم، والمطلوب ليس تحريرها فهي ليست أهلاً لذلك بل تحرير الإنسان ليتصرف بها على هواه بعيداً عن موجهات السلطتين اللغوية والعقلية.
وعلى الرغم من أن الفن عامة قائم على الاختيار والتعديل وإعادة ابتكار العالم، ظلت القيمة الذاتية للأشياء شبه ملغاة من وعي الفن في تاريخه الإنساني. فعلى الرغم من رغبة الفن في التحرر من القيود كان تقييد الدوال/ الأشياء من صميم مهمته كفن. فالعالم الموضوعي ليس سوى مختبر للعالم الذاتي للفنان يمارس عليه تجاربه ويستعمله بكل ما تحمل كلمة استعمال من معاني الدونية. بل إن كلمة موضوعي التي يوصف بها العالم عند الفلاسفة والمفكرين تحمل في صميمها أنه منفعل لا فاعل، بمعنى أنه محط الفعل الإنساني وليس مشاركاً فيه أو جزءاً أصيلاً منه. حتى عندما يتنفس العالم على طريقته ينظر إليه هؤلاء باستغراب ويصفونه باللاعقلانية والبدائية التي لا تعي ما تحتقبه من وجود جمالي حتى يتصرف بها الإنسان، ويكفي تعبير (قوى الطبيعة العمياء) للدلالة على تصور الإنسان عن هذا العالم الذي جرى اختزاله إلى دوال.
 انطلاقاً من هذه الرؤية يبدو المكون الدلالي مقيداً سلفاً قبل توظيفه حتى بآليات استدلال شبه ثابتة، إلى الحد الذي يبدو فيه كسر هذا القيد بقيد آخر، وليس بالحرية، أمراً مميزاً يُحسب للفنان لأنه كسر التوقع الدلالي المألوف وخرق القاعدة الاستعمالية السائدة. وبسبب من هذا التصور الجزئي صار الفن عامة ضرباً من التوظيف المختلف للمكونات الدلالية؛ فعلى قدر براعة التوظيف وجدّته يسمى المنجز فنّاً وعلى قدر خرقه للقيود يعد إبداعاً. وعلى الرغم من أهمية هذا الأمر في التعبير عن التوق الإنساني الأصيل إلى الحرية يظل يحمل في طياته النظرة الاستعبادية التي يعي الإنسان بها العالم بوصفه مكونات دلالية.
إن خصوصية السينما، بوصفها أكثر الفنون تعبيراً عن تداخل الذاتي والموضوعي حتى في أكثر الأعمال ذاتيةً، يمكن أن تفتح أفقاً لتحرير الدوال وليس تحرير استعمالها فقط. فتحرير استعمالها لا يعدو نقلها من ملكية رؤية ما إلى ملكية رؤية أخرى؛ وهو ما يعني بقاء استعبادها في ذاتها. أما الأفق الذي يمكن أن تفتحه السينما فهو إعادة النظر في سلطة الدال بوصفه اختزالاً للشيء، فهي تعيد للشيء وجوده بوصفه شيئاً ليس مشترطاً اختزاله بلفظ صوتي أو مكتوب للتعبير عنه. فعن طريق الصورة المحايثة للحركة تعود للعالم الخارجي حياته الخاصة وليست صورته اللغوية فقط. السينما هي الفن الوحيد القادر على إحياء العالم بوصفه حياة مستقلة قد تكون مسخّرة للإنسان ولكنها ليست عبداً له.
وإذا كان هذا الإمكان موجوداً في السينما من حيث هي فن فإنه محكوم برؤية الفنان السينمائي الذي ينبغي أن يعي ما تعيه السينما في ذاتها، أي أن يكون على قدرها وليس قيداً على إمكاناتها. والحقيقة المؤلمة أن البيئة اللغوية التي انغرس فيها الفنان وصار عبداً لاختزالاتها وتصوراتها عنه وعن الوجود لم تترك له إلى الآن فرصة أن يعي السينما بعيداً عن موروثه الثقافي والفكري، فهو ما زال يرى فيها وسيلة تعبيرية تشبه اللغة مع اختلاف المواد المكونة، بل هو يفرض عليها عاداته اللغوية بما فيها من استعلاء وعقلنة وذاتية. فإذا كانت (السلطة اللغوية تمنحه حرية اللعب بالدوال لعباً لا يتنافى مع النظام العام، فإنه ينقل هذه الحرية إلى تعامله السينما فيقع في خطيئة الترجمة البصرية ونعني بها النظر إلى اللقطة والمشهد والفيلم على أنه ترجمة بصرية لما هو لغوي من كلام أو أفكار).
إن فن السينما يعاني من محنة حقيقية في تعامله مع المكون الدلالي حتى قبل توظيفه؛ فهو من جهة يقيده كما تقيده اللغة ويفكر به على وفق منطقها، ويحتقب في صميم وعيه إن الفعل السينمائي البصري ترجمة قد لا تكون أمينة تماماً للمكون اللفظي/ الفكري؛ وهو من جهة ينقل اللعبة اللغوية (كسر التوقع والخرق والانزياح) إلى فن ليس من مهمته تحقيق هذه الأشياء على وفق الطريقة اللغوية.
 حين تحدث مبدعو السينما عن السينما الصافية كانوا صدى لفكرة الشعر الصافي التي تلهى بها شعراء القرن الماضي. وسبب وصفنا هذا العمل بالتلهي لأنه تجاهل، أو ربما جهل أن حاكمية الفكر اللغوي تحتاج أولاً إلى إعادة النظر في الأدوات والوعي قبل ممارسة الإبداع بها لتصل بنا إلى ما لا يمكن تحقيقه على وفقها. والسينما الصافية الخالية من أي عنصر غير السينما لا تتحقق بالصمت أو إبعاد اللغة عن الفيلم أو الشعرية البصرية، بل تتطلب قبل هذا كله سؤالاً عن ماهية السينما وعن وعي المبدع بها وفحصاً لإمكاناتها ولعلاقاتها بالعالم والتراث والوعي. من غير هذا السؤال ستكون السينما خاضعة للغة حتى في الفيلم الصامت، وستكون شعرية السينما تبعاً لمفهوم الشعر نفسه الذي هو مفهوم لغوي قبل أي شيء آخر.
إذا كان المبدع السينمائي يفكر باللغة، ويرى أن السينما لغة بصرية، وأنها وسيلة تعبير كاللغة تماماً، فليس في وسعه التخلص من ظل سلطة اللغة في إبداعه السينمائي. وليس مستغرباً بسبب هذا أن يتحدث المبدع باللغة ليشرح إبداعه  في السينما، وهو في هذا يشير بصورة أو بأخرى إلى قصور السينما عن أن تستقل عن اللغة. والحقيقة أنه ألقى على السينما قصوره هو عن الاستقلال عن اللغة وليس السينما.
إن على المبدع السينمائي أولاً أن يعي أن استخدامه اللغة في السينما إنما يجعلها هي ذاتها مكوناً دلالياً في ضمن مكونات السينما. والحقيقة المؤلمة أن العكس هو الذي يحصل حتى عند أكثر المبدعين تطرفاً في البصرية واستبعاد النشاط اللغوي داخل الفيلم. فإحالة الفيلم إلى اللغة تتم بطرق شتى أشهرها التفسير اللغوي لأفكار الفيلم الذي يقدمه المبدع بوسائل شتى، ولعله يسوغ هذا بعجز الجمهور عن الفهم من غير هذه التفسيرات، ولكنه يؤكد، وعى ذلك أم لا، إنه يشعر ضمناً بعجز مكوناته السينمائية عن التوصيل. وهو لا يريد طريقة توصيل غير الطريقة اللغوية، مع أن المشاعر غير المفسرة لغوياً أو الملتبسة التفسير يمكن أن تكون فكرة الفيلم التي لا تحتاج إلى تفسير أو في الأصح تعجز اللغة عن تفسيرها لأنها مشاعر فوق لغوية بصورة ما.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram