TOP

جريدة المدى > سينما > شعرية الاحتجاج عند أُسامة أنور عكاشة

شعرية الاحتجاج عند أُسامة أنور عكاشة

نشر في: 12 مارس, 2014: 09:01 م

(2-2) يخبرهم الضابط (سامي العدل) أنهم يبحثون عن إرهابي خطر، وأنهم بصدد تأمين الموكب الرسمي. يقبل أحد المخبرين حاملا بعض الثياب فتعترض الأم على تفتيش أغراضهم، ويمنعه سعيد من دخول غرفته، مشيرا إلى انتهاكهم لخصوصياتهم، فيرد الضابط بأن شقتهم في موقع سترا

(2-2)
يخبرهم الضابط (سامي العدل) أنهم يبحثون عن إرهابي خطر، وأنهم بصدد تأمين الموكب الرسمي. يقبل أحد المخبرين حاملا بعض الثياب فتعترض الأم على تفتيش أغراضهم، ويمنعه سعيد من دخول غرفته، مشيرا إلى انتهاكهم لخصوصياتهم، فيرد الضابط بأن شقتهم في موقع ستراتيجي بالنسبة للموكب، وأيضا على ارتفاع مثالي لتنفيذ أية محاولة إرهابية، وما يورط الأسرة العثور على مسدس بدون ترخيص للأب الفدائي، وحين تري الأم الضابط قلادة، يتساءل هازئا : هل كان يلعب في الدورة الإفريقية؟ يتعمد إسقاطها، يقوم بتقديم العزاء لهم فردا فردا، ويدوس على باقة الورد، بعد رميها قائلا : "هذا ما ترك لكم".
ومن عمق الخشبة يعلو هتاف : "الزعيم هو الشعب"، ويسخر الضابط من "لحظة يكون فيها الكل واحدا مثلما  قال توفيق الحكيم، (لم يذكر الحكيم، إنما أشار إليه بعبارة صاحب عودة الروح أو عودة الوعي)، الذي تنبأ بأن الزعيم الحقيقي هو  من تصنعه أحلام شعبه". يعلو الهتاف مرة أخرى : الزعيم هو الشعب، ويسترسل الضابط قائلا : "لهذا فحمايته واجب مقدس وليس مهما ما هو ثمن الحماية، لأنه ليس فردا مثل أي فرد من الملايين. ثمن الحماية يمكن أن يكون مصالح  ناس عادية، ألسنتهم، أقلامهم، حياتهم نفسها. المهم هي الغاية العظمى  والهدف الأسمى، ونفديه بالروح، بالدم،  بالآهات، بالنظرات، بالصمت الرهيب !!"، ثم  تنتشر قوات الأمن في أرجاء البيت المظلم، وتجدر الإشارة إلى أنه سبق لأسامة أنور عكاشة تناول مفهوم المستبد العادل من خلال شخصية العم الجبار (محمود مرسي) في مسلسل "عصفور النار"، ولم يقدم صاحب "ليالي الحلمية" العم   كشخصية  شريرة مستبدة، كما في بعض الأعمال الساذجة، بل  تطرق في حوار بين ابني العم (فردوس عبد الحميد ومحمود الجندي)  إلى علاقة الحب بالخوف والاحترام.
   في المشهد التالي، يبدأ استجواب  سعيد في غرفته، ويتطرق الضابط المحقق إلى  ماضيه  السياسي. يتهمه بأنه شيوعي بدليل اشتراكه في تظاهرات 1972م،  وفي "انتفاضة الحرامية" (كما سماها الرئيس السادات، وقد كتب عنها عكاشة فيلم "الهجامة" (بطولة ليلى علوي وهشام سليم)، ويرد سعيد بأن محكمة أمن الدولة برأته، وجاء في حيثيات الحكم أنها "لم تكن انتفاضة حرامية، كانت  انتفاضة شعبية". يعقب الضابط أن  كلمة "شعبية"  كلام الشيوعيين، فيجيبه بأنه لم تعد هناك شيوعية، ودول المعسكر الشرقي انتهت، ويشير إلى اعتزاله العمل السياسي، بعد عام 1977م، لتحمله مسؤولية الأسرة بعد وفاة والده، و لأنهم جعلوه يكره السياسة. وبخبث يبدأ الضابط  الآخر (سامي العدل) النبش في علاقة العروس السابقة بزميلها في العمل، الذي كانت مخطوبة له، يرد  سعيد أنه كان على علم بذلك، فيدعي أن زواجهما، الذي تأجل من قبل قد يكون مجرد غطاء للعملية الإرهابية، لاسيما وأن سعيد يعلم بأن تلك الصلة  تجاوزت الخطوبة، ويخرج من جيبه ورقة كتب عليها  عنوان شقة مفروشة كانت العروس تتردد عليها مع خطيبها السابق، فتسارع إلى انتشال الورقة التي سقطت أرضا، كمحاولة يائسة  لإنقاذ شرفها.
 وعند التحقيق مع سعيد ورباب، يفجر الضابط مفاجأة أخرى، موقعا بين الأخوين، كما فعل مع العريسين.  لقد استولى سعيد على  مدخرات خطيب أخته، عن طريق الاحتيال، من أجل الهجرة إلى الخليج. ويرسم ظهور العم مهيب (توفيق رشوان) لوحة تراجيدية مؤثرة، فهذا العجوز الذي  رأيناه  في بداية المسرحية بلا شخصية،  يعترف بأنه طلق السياسة، تاركا لهم الملعب، مكتفيا بالفرجة من المدرجات، ويتذكر - بحسرة- وفاة العروس ليلة الزفاف، بعد محاولتها التصدي لمن ألقوا عليه القبض. ومرة أخرى، يحاول الضابط الإيقاع بين الأم والعم مهيب، مستغلا حب وحيد المفرط لأبيه، وكراهيته لصديق والده، الذي يتوهم أنه يريد احتلال مكان أبيه، وكذلك يفضح تواطؤ الأم والعم مهيب  وتسترهما على حقيقة كون وسيلة  أخت غير شقيقة لأبنائها، عوملت كخادمة، ويتجه الضابط إلى هاني  المقعد، ويتهمه بأنه الإرهابي متخفيا في شخصية الشاب المقعد، يأمره بالوقوف وهو يهدده بإطلاق النار، فتظلم الخشبة وتسدل الستارة على المشهد الثاني.
ويظهر في بداية المشهد الثالث العم مهيب محتجزا خلف ما يشبه قفص الاتهام، بعد إطلاقه النار على "الخوف الذي بداخلهم" بتعبيره، ويتوجه للمشاهدين ناصحا إياهم بألا يفعلوا مثله.. يكتفون بالتفرج من المدرجات  أربعين سنة، ثم يرمون طوبة في الملعب،  بل يدعوهم  إلى النزول إلى الملعب وجعل الفاعلين يتفرجون..
وعند التحقيق مع سعيد، يقترح عليه العمل معهم، فيرفض مشيرا  إلى أن  "مبدأ الحفاظ على الأمن، في كل دول العالم الثالث.. بلاد الجنرالات والعساكر يتحول إلى سبب لإرهاب الشعوب"، ويؤكد أنه رفض كل عروض المنظمات، لأنه يكره السياسة منذ أن رأى- وهو طفل-  والده يجره رجال الأمن وهو مخضب بالدم.. مما جعله يكره السياسة والعساكر. ويدخل الضابط المساعد، ويبلغ رئيسه أنه تم  تمشيط المكان وتفتيش كل البيوت، والنتيجة سلبية، ويحاول الضابط الإيقاع بوحيد لفبركة "قضية" جديدة، وذلك بالإبلاغ عن العم مهيب وأخيه سعيد.. يثور وحيد، ويطرده من البيت. يشهر الضابط  المسدس في وجهه، ويطلب  وحيد منه إطلاق رصاصة الرحمة، ليتطهر من حياته، التي بدأها بالاستيلاء على نصيب إخوته من الميراث، ثم خطيب أخته، وبعدها استولى على مدخرات المصريين المهاجرين.
لاحقا يغادر وحيد البيت، ثم  تحمل رباب حقيبتها، متجهة إلى بيت خطيبها، لتعرض عليه أن يتزوجها، فتعاتبها الأم المتمسكة بالمظاهر الاجتماعية، وترد البنت بأنهم رأوا أنفسهم الليلة بلا مساحيق ولا ستائر، ثم يخرج العريسان من غرفتهما، وينتهي شجارهما بالطلاق،  وتتذمر الأم  وداد مستاءة من تعرية بيتها، ويشير سعيد إلى أن  كل البيوت المجاورة تم تفتيشها، وهناك من يغادرون حاملين حقائبهم...
ويسمع قرع شديد على الباب، ويدخل العساكر مسلحين، وتلفق  لهاني الشاب المقعد الرقيق المحب للشعر والغناء تهمة ملكية مدفع  رشاش جلبوه معهم.. وتطلب منه الأم  أن يغني، حتى يُعرف أي صوت الأعلى : الناس أم الرصاص؟  وتختم المسرحية بمشهد خارجي، يظهر  فيه الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة جالسا إلى مكتبه، ليتلو الكلمة الأخيرة للمسرحية قائلا :  " هكذا قالتها السيدة، وهي تواجه الرصاص : سيعلمون جميعا أن كرامة الناس وعزة أنفسهم، أقوى من أن يخترقها الرصاص".
يعد النص البطل الرئيس للعمل الفني، وقد لعبت الإضاءة – من خلال التعتيم والإظلام- وكذلك المؤثرات الصوتية دورا  كبيرا في التعبير الانفعالي/ الدرامي، كما شكل الديكور شبه الثابت معادلا جماليا للواقع السكوني الكسيح والانهزامية والسلبية، متضافرا - الديكور-  مع اليأس و شيخوخة الأمل وموت الأحلام (من خلال شخصية العم مهيب)، وهو ما يتطلب جيلا جديدا وأحلاما جديدة وسواعد قادرة على التغيير، حتى لا يبقى المستقبل غامضا، مع وجود جيل نقي، غير مهموم (غير ملوث) باللهاث وراء حطام الدنيا، وعاجز عن الفعل، تماما مثل هاني المقعد... لهذا جاءت  مسرحية "الناس اللي في الثالث" صرخة في وجه الطغاة ودعوة إلى التحرر.... ولهذا السبب عانت  من تعنّت  الرقابة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

السينما كفن كافكاوي

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram