TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الصورة والوجود

الصورة والوجود

نشر في: 14 مارس, 2014: 09:01 م

غالباً ما تتمايز الصورة image التي أصنعها لنفسي لمخاطبة الملأ بالتعالي والرياء، بينما وجودي الفعليّ، صورة وجودي الفعليّ بهفواته ومعضلاته، فإنها تتمايز، جوهرياً، بالتواضع، والتردّد والخفوت: إنها تَعْرف أن تلك الصورة الأولى المصنوعة مصنوعة حقاً. عندما أتحدث عن قطب متمايز اسمه الصورة، وقطب آخر اسمه الوجود، عليّ أن أعرّف الاثنين، لكن الصورة خاصة، فعلياً وتقنياً ثم مجازياً، دون أن أخلّط أو أخوض بإنشاء أدبيّ أبرع به. المشكلة الكبيرة في الثقافة العربية أنها تَخْلط بين (الصورة) و(الوجود) existence وتُماهِي بينهما. لدينا الأدلة.
يفضّل البعض المستوى النظريّ المحض للعلاقة بين الصورة والوجود، وحالما يسعى لإيجاد أمثلة تطبيقية في الوسط الثقافيّ أو العائليّ حتى تثور الثائرة. بعبارة أخرى: الثقافة العربية تفضّل غالباً الصورة على الوجود كما يبدو لي. وعندما يكون التفارُق بين صورتي، ووجودي الفعليّ بجميع مشكلاته هو القاعدة المريحة المسكوت عنها، يصير الصمت قاعدة ملازِمة.
قلة قليلة تستطيع أن تُمَاهِي (الصورة)، صورتها، مع الوجود، وجودها: أن تجعل الانسجام بينهما قاعدةً. في الغالب الانشقاق هو السائد، عربياً خاصة.
ثمة صورة تَعْرف أنها لا تعبّر عن أيّ وجود، لكنها تقدّم وجوداً مُموَّهاً، لُعُبياً، ملتبساً، غامضاً، طرفوياً، موقفاً من الوجود في النهاية. هذه ليست صورة زائفة، ليست محض صورة، بل فن. الفن واعٍ وقصديّ، وليس صورة زائفة.
لعل علاقات العواطف تهرب وتتهرّب، إلى هذا الحد أو ذاك من قطبي (الصورة) و(الوجود) هذه. لكنها علاقات لا تتسم بالمنطق دائماً مثل علاقات الرغبة الجسدية والاستهلاك السلعيّ التي تتهرب من المنطق. وهذا الأمر يمسّ بعضاً من الثقافة وليس كلها.
بعضنا يدافع فقط عن الصورة التي يصنعها بدأبٍ لنفسه، الصورة وليس الوجود: وجوده بجميع تناقضاته ومشكلاته ومعضلاته. حالما يزحزح أحدٌ هذه الصورة قليلاً حتى تثور ثائرته.
أتذكر هنا هواجس ريلكه عن الصور. في العالم العربي: الصورة التي يخترعها المثقف لنفسه، خاصة في شروط ثقافية وسوسيولوجية متدهورة، لا تعبّر قط أو دائماً عن المثقف الفعليّ. ثم أن تملّق القارئ يشكل شطراً جوهرياً من الصورة التي يسعى الوجود الفعليّ للمثقف، بمعضلاته ومشكلاته الوجودية العويصة، لتكوينها عن نفسه. في العراق، حسب ظني، التفارُق أكبر بين الصورة التي يصنعها المثقف لنفسه والوجود: وجوده الفعليّ. من جهة أخرى فالصورة التي تكونها العديد من النساء والزوجات المتعلّمات عن أنفسهن لا تتطابق بالضرورة مع تراجُعٍ دائبٍ من طرفهنّ، في الحياة الواقعية، إلى مستوى بدائيّ، ريفيّ أو (نسوانيّ) بالمعنى السالب للمفردة.
الزحزحة بين قطب الصورة التي أصنعها لنفسي وقطب الوجود، وجودي بمعضلاته ومشكلاته، مستخلَصة من المراقبة الموضوعية للخارج، ولداخلي أنا نفسي أيضاً. أعترف بشجاعة لكي أبرأ بسرعة. فالصورة التي أصنعها لنفسي لا تتطابق ثانيةً بالضرورة مع الوجود: وجودي الفعليّ بهفواته ومعضلاته. هذه الصورة تتطلب اليوم قدراً عالياً من الكاريزما التي ستضبب حقيقة الوجود الفعليّ. لذا تتنافس فوتوغرافيا المثقفين من الرجال والنساء، خاصة النساء على أكبر قدر من الكاريزما من أجل حرفنا عن حقيقة التفارُق بين صورة المثقف والوجود.
بقدر ما يتعلق الأمر بـ (صورة الآخر)، لغرض وآخر، سامٍ أم متدنٍ، يتمّ أحياناً تقديم صورة غير حقيقية عن وجوده الفعليّ بتناقضاته ومشكلاته. يمكن الارتفاع بهذه الصورة والإفراط بها، ويمكن التقليل من شأنها.عبر ألف وسيلة ووسيلة.
الرتوش أيضاً على الصورة يمكنها تمويه الوجود الفعليّ، بمشكلاته وتناقضاته. مشكلة الرتوش عويصة، لأنها يمكن أن تُوْهِم وجود من يَرْسم بدأب صورة يحبّها لنفسه: النقاش يُستحَث استحثاثاً عن الرتوش ليضبّب الوجود الفعليّ. المكياج مثلاً عند الرجال والنساء، والإفراط به خاصة، هو مشكلة وجودية (ُهنا ينبغي قراءة أعمال رسّام مثل البلجيكيّ أنسور).
مشكلة الرتوش في الصورة تستهدف تعمية الوجود، تجميله وتحسينه وجعله مقبولاً. في حالة الرسّام البلجيكي آنسور، المكياج سبيل عدميّ يستهدف طمس الشيخوخة، أو الموت بعبارة أخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram