اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > الفنان موفق أحمد.. في سجل أيام الموت

الفنان موفق أحمد.. في سجل أيام الموت

نشر في: 14 مارس, 2014: 09:01 م

(وحيدا.. حملت حقيبة همومي وإحزاني.وحيدا.. عبرت إلى مناطق اللا حلم.وحيدا تركت أولادي في جوف الحرب.وحيدا.. بلا زاد .. بلا من ينتظرني.. بلا توقيت.)موفق أحمد هل نكتفي بما دوّن عن التاريخ العراقي الحديث, من وثائق رسمية و بعض الأحيان غير رسمية. عن حوادثه,

(وحيدا.. حملت حقيبة همومي وإحزاني.
وحيدا.. عبرت إلى مناطق اللا حلم.
وحيدا تركت أولادي في جوف الحرب.
وحيدا.. بلا زاد .. بلا من ينتظرني.. بلا توقيت.)
موفق أحمد

هل نكتفي بما دوّن عن التاريخ العراقي الحديث, من وثائق رسمية و بعض الأحيان غير رسمية. عن حوادثه, بأرقامها وتفاصيل وقائعها أو ألغازها, التي هي مجرد مدونات موضوعة أو مروية دون الانتباه وتقصي مباشر للحوادث اليومية للحياة المعيشة على حافة الهاوية لملايين الناس القاطنين أو الفارين من رقعة عراقهم الجغرافية؟ حوادثنا, تواريخنا المعاصرة الملتبسة, لم تمسنا فقط, دون اختراقات أو إفناء لبعضنا, ولا يتوفر لنا غالبا حتى ولو هامش مناورة, نتعلق بأذياله لينجينا من أقدارنا. تاريخ لا يعادل الخسارة بربح, إلا ليزيد من خساراتنا. الرابح فقط, هو من يبني عمارة ربحه على أنقاض خساراتنا. ولتبقى خساراتنا تبحث عن تعويض مستحيل. من فرّمن تاريخه, فقد نجا موقتا. أو خسر للأبد. وخساراتنا لا تعد.كان همي هو البحث عمن يتطوع لتدوين تاريخ خسارته علانية, ضمن القليل مما دون. ثم وجدته, وها هي وثيقته, سيرة أيام محنته أمامي, الفنان(موفق أحمد) المقيم, الهارب, اللاجئ. هو الذي وفر لي وثيقة فريدة. وثيقة تدون حوادث هروبه, واحتمال موته, أو نجاته, عبر حدود العالم. وثيقته هي مجرد رسوم تخطيطية, لكنها غير تقليدية. رسوم لم يصنعها محترفه الفني(مرسمه). بل هي من نتاج أيام احتجازه في سجن يوناني, ولولا الصدف التي عرفته بأصل المترجمة(العراقية) لما استطاع الحصول على الورق وقلم الرصاص. وكان تفضلا من إدارة السجن, أو المحتجز. الهبة البسيطة هذه. أوراق صغيرة بقياس (13 ـ 18) سنتمترا مع قلم رصاص فقط, ساعدته على تحمل وحشة أيامه وبؤسها, وهو قابع ضمن حشد منفيي العالم من غجر ورومانيين وغيرهم. أرواح مهلهلة هائمة لم يساعدها الحظ على العبور للضفة الأخرى. ضمن هذا الحشد البائس كان موفق يخط أيام محنته بتفاصيلها الواقعية, يوما بعد يوم. سجل البؤس الإنساني هذا, وجد من يظهره للنور في بلده الثاني(هولندا). وكان كتابه الفني الوثائقي(أيام الموت) اختزالا لمحنة احتجازه لمئة وثمانية وعشرين يوما.
كتاب موفق الفني (أيام الموت) في شكل إخراجه وصياغة مفرداته, ليس كبقية الدفاتر الفنية للفنانين العراقيين التشكيليين التي عهدناها. فبالوقت الذي اعتمدوا الأساليب التجريدية المعاصرة للتعبير عن القضايا العامة. جاء كتاب موفق كمطبوع, وليس كنسخة للعرض الفني. إضافة لحصر مفرداته بالسيرة الشخصية وليست العامة, وتنفيذ رسومه بأسلوب واقعي انطباعي وتعبيري.
(كطير مهاجر..
ودمعة تسيل..
بلا عنوان..
وحيداً..
ليش.......................؟) .. موفق
تخبرنا رسومه بأنه حينما سلم أمره للمهرب, كان يعلم بان مصيره لم يعد معلوما. فقوانين التهريب ليست نفسها قوانيننا المدنية. هي قوانين فرضتها سلوكيات مافيا التهريب النفعية الاستثنائية, التي تعتبر الشخص المراد تهريبه مجرد عملة, وأحيانا عملة فائضة لمقامرة محسومة نتائجها, أما ربحا مطلقا أو خسارة لبعض من ألأرباح. الخسارة هي هذه الأرواح الهائمة التي سلمت مصيرها للمجهول وأهواله. كوارث العبور لا تعد, وزوارقها الغارقة لا تحصى نفوسها. لقد قامر موفق بحياته. وكان مرميا داخل الحدود اليونانية, مغشيا عليه, وحيدا وخائر القوى وبلا وثائق ثبوتية بعد أن سرقته المافيا كل ما يملك. فالوثيقة بالنسبة لهم مال مضاف. على أمل أن تلتهم جسده هوام الأرض. وكان باب السجن له إنقاذا وسلبا للحرية في نفس الوقت.
كتابه الفني الوثائقي(أيام الموت) يحتوي على ثمانية وثلاثين رسما تخطيطيا. نتاج ذاكرة تحاول جهدها استقصاء أثر الطريق الوعر. منذ مغادرته اسطنبول وحتى باب السجن. لقد اختار موفق رسوم كتابه بعناية بما بجعلها توفر للحدث تسلسلها الزمني دون أن يغفل المغزى الرمزي الذي يساعد على تقديم حوادث المأساة بواقعية تفاصيلها, وتداعياتها النفسية. هو يقدم لنا, كما يقدم لهم(الحاضن الأوربي), واحدة من تجارب الحياة المهمشة ضمن سلوكيات السياسة الكارثية التي قسمت العالم إلى متحضر ومتخلف. وبتنا محسوبين على جانب تخلفنا الحضاري, وحتى في شقه الإنساني, وهو الأهم.
الرسمة الأولى:
كما الافتتاحية, أو مقدمة كتاب. تطالعنا الرسمة الأولى في الكتاب بتخطيط يمثل مدخلا لموضوع الكتاب. لكنه مدخل كاشف عن عنصر المأساة التي سوف يعالجها, سلسلة
رسوم عايشت الحدث, وليس تأويلا له, بالتأكيد هي رسوم توضيحية, فيما يخص السرد الصوري. لكنها أيضا صور مسترجعة من ألبوم الذاكرة التي خبر الرسام تفاصيلها. موفق يجمع في هذا الرسم عنصري المأساة مرة واحدة. متمثلة بلقطتين مزدوجتين, الأولى تمثل مونولوج داخلي شاحب اللون. يطل من الأعلى كلقطة استرجاعية على خلفية الحدث المرسوم في أسفل الورقة صعدا بعتمة شخصياته المهرولة للمجهول. هو في الأولى يستدعي الحلم متجسدا في مناجاة حبيبته التي تركها للمجهول. وحيث يظهر فيها شخصه أو ما يتخيل بأنه شخصه ملتفتا لحبيبته التي تقابله لوحده, وربما لا يكفيه حتى الإبحار في ملامحها الطيفية, من استعادة أيامه.
حلمه الطيفي هذا بتقشف خطوطه يتعارض وبقية التفاصيل المرسومة. فالشخوص المعتمة الهاربة عبر مسالك الغابة, الفاقدة للملامح تشكل مع فضاء الغابة الخشن التفاصيل حتى الأفق تضادا ما بين النور الذي يعم شخصي الطيف وعتمة بقية الأشخاص المهرولين في مساء الطبيعة البكر المعتمة فالحلم, وكطيف هارب, مجرد ومضة وسط عتمة او وحشة أيام محنته. تشكل هذه الرسمة مدخلا لتفاصيل الحدث. فهي تشير مباشرة الى كون الفنان لا يرغب في فقد عالمه الذي يمثله: الوطن, الأسرة, العمل, المعارف.. لكنه لا بد أن يبدأ رحلته لمجهول أقامته الجديدة ولا يملك سوى حقيبته الصغيرة, ولا يحمل الا قلبا لا يود الفراق, رغم كونه مرغم عليه, كما معهود اغترابات عراقية لا تعد ولا تحصى. لقد بذل الفنان في هذه الرسمة جهدا أكثر مما بذله في غيرها. وبذلك أخذت مكانها المناسب كمستهل للحدث الدرامي الذي خط تفاصيله على أوراق اخرى. ربما كان يفكر, وهو يرسم خطوطها بأن يصنعها مدخلا للحدث. أو ربما هو رسمها بدافع ذاتي متأخر, لكنها مثلت أصل وعلة الحدث. فهي عبرت عن نوازعه الخاصة لحظة انفصاله في لحظة انفصاله عن عالمه محيطه العراقي.
الرسمة الثانية: وهو يسير بقدمه للمجهول.( هل تدرك ما آنت متجه إليه ؟).
(وحيدا.. حملت حقيبة همومي وأحزاني). وحيد إلا من ظلال خطوات قامته السائرة على آثار مسالك الآخرين.حقيبة ظهره التي لخفتها لم تحن ظهره. لا شيء في دربه سوى تربة متشققة وبعض من نبات بري. ظله الذي يتبعه تشظي مندسا عبر أخاديد الأرض الجرداء المتعرجة في اتجاهات ثلاث. شظية لقمر بدأ بزوغه, و شظية لما تبقى من ذبالة شعاع الشمس الأخير. وشظية للجسد تحجبه عن أعين البصاصين. لا يشير هذا الرسم إلى شيء سوى فعل السير. فإن كانت الرسمة الأولى تشير إلى الهروب, أو العبور الجماعي للمجهول. فان وحدة الفنان المشاء في هذه الرسمة. ربما يمثل لغزا بالنسبة لسياق الحدث. هو هنا وحيد منفصل عن السرب. ليس لديه سوى إصراره على تحمل مسؤولية قراره لوحده. فلكل قضيته, أو قصته. ومن اجل ان يبدأ سرد قضيته, فلا بد ان يعزز دافعه الذاتي. وكما يظهر في الرسم, هو لا يبصر سوى علامات دربه الخاص.
الرسمة الثالثة: اللحاق بالركب.
(غريبا عاش.. غريبا غادرهم..غريبا التقاهم..غريبا سار مع القطعان).
إن كانت الرسمتان الأولى والثانية مهدتا للحدث. فالرسمة الثالثة هي بدايته. لا شيء سوى الطريق وحذر يطغي على مجموعة أفراد عزل., مجرد أشباح تصعد حتى منعطفة. وموفق مندسا بينهم. أو ربما هو في آخر السرب يجر إقدامه. واعتقد انه كذلك. فالحقيبة نفسها وغطاء الرأس يكاد يكون نفسه. لكن هل هو الحذر من عدم الاختلاط من جعله في آخر السرب. أم هي هيبة الموقف الجديد. ربما هو كل ذلك.
في الرسمة الرابعة بدأت المناورات. المجموعة منبطحة على الأرض. منصتة لصدى أي خطوة غريبة أو معادية. بهاجس تلاشي أثرها. في الرسمة الخامسة نهضوا لتكملة مشوارهم. في السادسة ثمة شجرة عملاقة متشابكة أغصانها مثلما جذورها الضخمة البارزة فوق سطح الأرض. ماذا يعني بها مؤيد, وسط رحلة انقطاع جذره. هل هي مجرد علامة استفهام. أم وطن افتراضي عليه الاحتماء بجذوره ولو موقتا. أم اشتباك مصيره وحزمة مصائر رفاق دربه. مؤيد رمى رسمته هذه بوجوهنا تذكار ملغز من تذكارات نكبته. وترك لنا حرية كشف ألغازها. ويستمر السرد المرسوم في قصاصاته الصغيرة: عبر أدغال الغابات والحقول. وهلع كارثة انجراف الزورق المطاطي حتى عمق النهر الهادر, آخذا بعض من منكوبي الحظ إلى قاعه طعما لمخلوقات أخرى. القطيع يناور حافات خط تماس موته المؤجل باستمرار. اختباء خلف أو حول تضاريس الطبيعة الخشنة, وحتى العبور فوق أسلاك الحدود. ثم انهياره الجسدي وسط ثلة حيوانات الحقل البرية, يلفه ظلام الليل ويوقظ بعض حواسه عواؤها. في الرسمة السابعة والعشرين ينفذ الضوء من طوق أغصان شجرة يابسة. ومضة نور كما في أخر لحظة فقدان الوعي. ولتستمر بقية الحوادث من احتجاز بوليس الحدود وجلسات التحقيق. تعقبها محنة الضغط النفسي وتداعياته كوابيس أو هذيانات أحلام هي بعض من ذخيرة أيامه التي أصبحت ماضية.
يبقى السؤال عما أحدثته هذه التجربة للفنان موفق أحمد. أعماله التي أعقبتها ولحد الآن تشير إلى انه استقى مصادر إلهامه الجديدة, من زاد رحلته الخرافية هذه. زاد الطبيعة رفيقة دربه بتفاصيلها التي احتوت حوادثه. فهل انتهى مشروع الكتاب هذا؟.. روائح التربة واذرع أغصان وجذور وجذوع أشجارها البرية. سهولها وبراريها وهضابها. وحشة ظلمة ليالها. توحده والبيئة البرية هذه لا يزال فاعلا في معظم نتاجاته الفنية الجديدة. لقد ختم على دفتر الأحزان واركنه خزانة أرشيفه الشخصي. ليستعيده نقاء فضاءات كان يحلم بها في وطنه الأم. ولا ربح بدون خسارة.
* الكلمات التي داخل الأقواس هي من مدونة مقدمة الكتاب بقلم الفنان نفسه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الرافدين يطلق رواتب المشمولين ضمن شبكة الحماية الاجتماعية

بالوثيقة.. التعليم توضح بشأن توسعة مقاعد الدراسات العليا

العدل تعمل على خطة تجعل من النزلاء يكملون دراستهم الجامعية

ارتفاع بمبيعات الحوالات الخارجية في مزاد المركزي العراقي

رسمياً.. أيمن حسين يوقع على كشوفات الخور القطري

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

باليت 42 بدايات عام جديد

السُّخرية السريالية ودلالة الأيقون في أعمال الفنان مؤيد محسن

المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

عمارة تلد مسابقة!

دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram