TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حبال إبراهيم الرفاعي الطويلة

حبال إبراهيم الرفاعي الطويلة

نشر في: 15 مارس, 2014: 09:01 م

 (هنالك من يجلس على النهر صباح ومساء كل يوم، ويعشقه لكنه لا يستطيع كتابة حرف واحد). انا هو، أنا أكتب خواطر كثيرة لأفضي بما في داخلي من هموم. عزيزي: طالب صوّرلي (الچولان) وأريد صورة صريفة ينبعث منها دخان كثيف في يوم ماطر، أحب المنظر هذا، احب الحطب حين يكون ممطورا، وبالكاد يشتعل، دخان كثير يتصاعد منه قبل ان تلتهمه النار، أريد ان أسمع صوت بلبل في صباح يوم ما. أريد فانوساً أحمله في الليل أتفقد على ضوئه بيت الحيوان... وبأكثر من ذلك يكتب لي صديق بصراوي من أهالي مدينة الفاو يعيش الآن في الشارقة بدولة الامارات. هذا حنين قطع أحشاء القلب والله.
اكتب هذه القطعة لإبراهيم الرفاعي واستحضر معه غربة كثيرين غادروا مدنهم في الوسط والجنوب، كل منهم له شكواه ونجواه، لكن شكوى اهل الحضر ليست كشكوى أهل الوبر يقول ملاّح سفن هنا، حتى وإن سكنوا المدن الجميلة النظيفة، هنالك بوحٌ خفيٌّ لكل واحد من هؤلاء الذين خرجوا من بصرتهم، من بغدادهم، من أي مدينة كانت لهم الأهل والوطن والرفقة، ومهما تصوّر احدنا الغربة تلك لن يمسك بلحظة واحدة من من انسحاق أرواحهم وما يعانون منه، قد لا أستطيع فهم المعاني العميقة التي في طلب صديقي إبراهيم، وقد يظن البعض بان طلبا من قبيل إرسال صورة صريفة ينبعث الدخان رطبا من فروج سقفها بعد توقف المطر، أو حتى صوت بلبل يقف فرحاً على سعفة خضراء في بستان وسوى ذلك من المشاهد، لا يتجاوز في معانيه أبعد من نوستولوجيا تصيب أي مهاجر.  
  لكني أعرف إبراهيم الرفاعي فلاحاً، بصراوياً، خصيبياً لا يمتلك وعياً سياسياً، ولم تنبت في روحه بذرة للطائفية يوماً، وما الرفاعية فيه إلا نسب يتصل بزين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب قبل أن تكون زهداً وتعبّداً ومحبةًّ، لكنه هاجر لأن الرزق شح هناك، في الفاو، هو الذي قال لي: صوّر لي الچولان. أحب الچولان هذا، كان انقطع من ضفاف شط العرب هناك، بسبب الماء المالح، مات النخل والعنب والحياة صارت صعبة وأنت تعرف. بمثل هذه وأكثر يصف صعوبة العيش في مدينة جرّفت الحروب بساتينها، وتشدد البعض من اهلها فصاروا طائفيين، حين تدنّى الوعي المديني لديهم حتى بات الاسم تهمة توجب القتل. ومع ذلك كله وجدتُ انَّ إرسال صورة الجولان واجبُ حكمٍ علي، علني بالصورة هذه اردُّ عن الرجل غربته التي طالت، لا بل التي قد تطول اكثر.
  ولمن لا يعرف(الچولان) بجيم أعجمية نقول هو نوع من الحشائش يشبه البردي إلى حدٍّ ما، كانت تنمو كثيفة جداً على ضفاف شط العرب والأنهر المتفرعة منه، وهو علف رخيص ونافع للأبقار والجواميس، تتخذه الخنازير الوحشية مكامن آمنة لها في شطآن الفاو والسيبة والواصلية وسيحان والقرى تلك، التي تمتد على طول شط العرب البالغ أكثر من 120 كلم في مشهد تتخلله بساتين نخل وغابات عنب وفاكهة غير منحسرة، كان أجدادي وأجداد إبراهيم وغيره من الخصيبيين يضفرونه حبالاً، يشدون بها ما تهالك من أخصاصهم، يربطون به سفنهم خشية أن يسلبها الموج، ينزلون به ما تعاظم من عذوق رطب البرحي والبريم والقنطار وما لذ من التمر، يربطون بها الوحشي من أبقارهم، وبها ينسرحون عميقاً في اللجة، هناك بين ضفتين بعيدتين حيث تتسع شباكهم سمكاً وأخشاباً ونوارس. كان إبراهيم يدرك معاني الحبال تلك.
  بخيال من قصب ونوح يشبه نوح الثكالى من الأبقار والسلاحف والأشجار تناهى الي صوت إبراهيم، الذي التقيته في منزل أثري قديم بالشارقة كانت هيئة الثقافة والآداب في دولة الامارات قد اتخذته مقراً لها، في المنزل ذلك كان إبراهيم يتلمس خشب المقاعد والأرائك والأثاث ومصاريع  الأبواب، يمرر أصابعه على النقوش المنفلتة من عناية النجّار، معترضاً على صف المسامير، حركة المسند، يحرك بحسب مشيئته ما تعامد سقوفاً وتطاول خزائن ومحامل هنا وهناك. ما يريده ابراهيم الرفاعي كان حبلاً طويلاً سأظل أضفره مدى الدهر، لن تنفد وشائجه أبداً، حبلاً يصل البحر بالشط الغريب وحتى إذا ما بلغت به خياله ذات يوم سيطويه على خصره قافلاً، عائداً على موجة صمّاء الى البصرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ابو اثير

    أستاذي البصراوي الكريم .. كلما أقرا مقالاتك أرجع ألى الوراء وبألذات عام1970 من القرن الماضي عندما كنا في أحضان البصرة الحبيبة نقضي شهر عسلنا وكيف كانت البصرة بربوعها الخضراء الجميلة وبساتين التمر والعنب وجداول مياه الخصيب وساحة أم البروم وشوارع المعقل وسو

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram