TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عربة محمود سعيد

عربة محمود سعيد

نشر في: 17 مارس, 2014: 09:01 م

يكتب محمود سعيد، الروائي العراقي المقيم في واشنطن، وكأنه يركض ليلاحق الزمن: جمله القصيرة المتوترة، حواراته الموجزة، المكتنزة بالدلالات، لتأتي صفحات روايته الجديدة (صيد البط البري) استمراراً لرواياته السابقة من حيث التقنية: الانتقال عبر الزمن في عربة اسمها الرواية، ولكن ليس على غرار (آلة الزمن) لـ أتش جي ويلز التي بلغت المستقبل البعيد، إنما هي عربة روائية عراقية تتحرك عبر الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، عربة مجنونة، مفرطة بالكوابيس، شغوفة بالسلام، بأمن الإنسان وحريته، بعيداً عن الدكتاتورية والحرب.
يقدم سعيد في هذه الرواية شهادة سردية مشوّقة، منطلقاً من ذلك الطريق الدامي (طريق الموت) الذي أجهز فيه الجيش الأمريكي على الجيش العراقي المنسحب من الكويت إثر عاصفة الصحراء ليصاد الهاربين من الموت باتجاه بلدهم العراق، كصيد البط البري: يطير خفيضاً ليسهل صيده! كما يقول الجنرال الأمريكي.. من هنا تبدأ كوابيس (منصف) الشخصية الرئيسة في الرواية:
كابوس: "لنلعب الكرة، هيا، نزل مع جنود الفصيل من شاحنة الزيل العسكرية. انتشروا على الرمال، من عنده كرة؟ أنا، رمى العريف كرة سوداء. ما هذه؟ أول مرة أرى كرة سوداء وغير مستوية. هه. ليست كرة. رأس إنسان، آدمي محروق. ركله العريف بقوة، ارتفع بضعة أمتار، سقط على بعد عشرين متراً، ركله جندي، وصل الرأس إلى قدم منصف، هتف من دون شعور: توقفوا، هذا رأس أبي).
يجد (منصف) الجندي العراقي منفذا ما ليبتعد عن الجموع العسكرية المحترقة، أو التي في طريقها إلى الاحتراق، ليبلغ بيته في بغداد، ومنها سيتوجه إلى (معسكر الحرية) في الناصرية ليقبل لاجئاً لدى أمريكا (الحبيب القاتل).
والدا منصف قتلا في قصف ملجأ العامرية الشهير. وهو في الحافلة إلى الناصرية (أغمض عينيه، صوت أمه يملأ البيت بهجة، تعانقه تقبله وهو ذاهل).
إذا كان منصف قد نجا من اختراق الرصاص لجسده، بفعل المصادفة فإن حياته، بعد ذلك، لم تسر وفق المصادفة، حيث العالم المحكوم بقوانين وشروط وحدود وجيوش ودول، فإنه لم يزل مخترقاً بذاكرته ومعاناته وأحلامه، أي مخترقاً بالأزمنة الثلاثة، ماضيه وحاضره ومستقبله، فذاكرته المليئة بالجثث المتفحمة على (طريق الموت) بينما هو يعاني ليتخلص من ماضيه الذي يحاصره على شكل كوابيس في يقظته ومنامه، وهذا ما يلف حاضره بالألم، وهو بعد هذا وذاك، مخترقاً بأحلامه: أن يحيا بسلام.
يشارك سعيد قراءه بألعابه الروائية التي ليست مسلية، بأي حال من الأحوال، بل هي ألعاب تكتنز المفاجأة والدهشة على هيأة أحداث ملغزة تعمق خط التشويق والإثارة، فالسيدة (تاتشر) التي تدير شركة تجارية بأسلوب "حديدي" حيث يعمل منصف سائق شاحنة، ستصبح شخصية أخرى تماماً، يستبدلها الروائي بخفة الساخر بسيدة فلسطينية ستسهم في كشف ملابسات التعذيب المشين في سجن (أبو غريب).
ينأى سعيد ببطله (منصف) من مغريات وظيفية أمريكية عدة تصب جميعها في خدمة الجيش المحتل، ليصونه، حراً، مستقلاً، وريث أبيه المواطن العراقي القارئ للكتب الإنكليزية (حر التفكير ومناوئ للدكتاتورية) = تلميح موجز إلى استقلالية المثقف.
رواية (صيد البط البري) ملغومة بالأحداث والشخصيات والترميزات، وتستدعي أكثر من قراءة وبمستويات مختلفة، وهذا ما أتوقعه، إذ أن الكاتب يتمتع بمهارة سردية ممتازة في إدارة شخصياته وابتكار مشاهده التي امتزج فيها التسجيلي والخيالي بتنافذ غير مفتعل، حتى أن قارئه سيخمن، لا بد، إن روائياً، مثل محمود سعيد، ينشئ عالمه الفني على معلومات موثقة جمعها مثل باحث مجتهد كي يصنع منها مادته الخام وصولاً إلى معماره الروائي في شكله النهائي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram