سعد محمد رحيمللهجتنا الشعبية مفرداتها واستعاراتها واقتباساتها وصياغاتها، ولأنها غير مقيّدة بقواعد أكاديمية صارمة فإنها تحتفي باستقبال كلمات جديدة إليها تبتكرها أو تشتقها أو تستعيرها الشرائح الاجتماعية بفاعلية حسها الواقعي وفطرتها وذكائها. ومن يريد أن يتفهم طبيعة وضع سياسي واجتماعي ما،
عليه، إلى جانب وسائل عديدة أخرى، أن يتسقط أثر انتشار مثل هذه المفردات والعبارات بين فئات المجتمع في الحقبة الزمنية المعنية. كانت الكلمة الأولى التي جرى تداولها بين الناس بعد سقوط نظام صدام حسين هي (الحواسم). وإذا كان النظام السابق قد أراد من وراء تبني هذه الكلمة وهو يطلقها على معركته المرتقبة مع جيش الولايات المتحدة معنى ما، توهَّمَه، وهو يعتقد أنه سيحسم المعركة لصالحه، فإن استعمال الكلمة، بين الناس، فيما بعد، اكتسب دلالات أخرى مختلفة تماماً وأكثر سعة وتعقيداً. فهذه الكلمة بدخولها في نسيج اللغة الشعبية المتداولة لمّحت من جهة إلى سخرية الناس من المعنى الذي أراده لها النظام. ومن جهة ثانية أشارت إلى حالات السلب والنهب التي رافقت عملية الاحتلال الأمريكي وأفضت إلى دمار مؤسسات الدولة العراقية وممتلكاتها التي هي ممتلكات الشعب أولاً وأخيراً. واليوم يتحدث الناس عن أغنياء الحواسم ومقاولي الحواسم وشيوخ الحواسم ومناصب الحواسم وأحياء الحواسم. وإذا كنا نفهم سبب اضطرار قسم من فئات المجتمع الفقيرة إلى السكن في بعض بنايات الدولة، أو تشييد دورهم السكنية على أراض مملوكة لها، نتيجة أزمة السكن المستفحلة، فإن ما لا يمكن فهمه وتسويغه هو استيلاء بعضهم على هذه البنايات والأراضي واستخدامها في أعمال خاصة تدر عليهم مكاسب مادية. والقصص بهذا الصدد عديدة، ويمكن لأي منا إيراد عشرات منها. ولعلّ من أغرب ما حُكي لي أخيراً، قيام شخص ما (لا أعلم مَن ظهره) باقتطاع أربع غرف (شُعب) من بناية الإعدادية المركزية التجارية في قلب بغداد، في حي القاهرة، بالقرب من الجامعة المستنصرية، واستخدامها كمستوصف صحي أهلي، يعمل فيه أطباء وممرضون، وهو غير مرخّص من وزارة الصحة. وعلى الرغم من أن إدارة الإعدادية، وطوال سبع سنوات، لم تترك سبيلاً قانونياً إلاّ وطرقته، كما علمت، إلاّ أن لا أحد بمقدوره إعادة صفوف إعداديتها إليها!. كلما ضعفت سلطة القانون ظهرت ثغرات ينفذ منها المتصيدون في الماء العكر ونهازو الفرص السيئة لتحقيق مآرب ذاتية باطلة على حساب مصلحة المجتمع. وليست الفوضى سوى النتيجة المنطقية لهذه المعادلة الواضحة. وإذا كان الضمير الحي والشعور الوطني وروحية احترام القانون وحب النظام روادع تمنع الشخص ذا الطوية السليمة والجوهر الخيّر من الإتيان بسلوكيات تضر بالآخرين وتغتصب حقوقهم، أو تهدر المال العام، فإن الحقيقة الساطعة التي نعرفها عن الطبيعة البشرية تنبئنا بأنْ ليس البشر كلهم من معدن واحد، فهناك فاسدون ولصوص ومجرمون وانتهازيون بين ظهرانينا. وإن كنّا نقر بأن نسبة هؤلاء إلى المجموع ضئيلة، غير أنهم، أيضاً، فاعلون، لا شك، ويستطيعون أن يؤذوا حيثما أُتيحت لهم الفرص. وهؤلاء لا توقفهم سوى عين الرقابة الثاقبة، وسلطة القانون التي تردع وتعاقب. (الحواسم): تلك كلمة واحدة من بين مئات وآلاف الكلمات من هذا القبيل. فيا لثراء لهجتنا الشعبية ومرونتها وقوتها التعبيرية ومكرها.
وقفة: ثراء لهجتنا الشعبية
نشر في: 18 نوفمبر, 2009: 07:14 م