هيمنت صورة الحب المرتبط بالفروسية وأخلاقياتها وطقوسها على مجتمعات القرون الوسطى ،عندما اتخذ الفرسان - وهم الشعراء الجوالون التروبادور- قصائد العشق أداة إبهار وإغواء واستعطاف ينشدونها تحت نافذة المرأة المعشوقة اللامبالية وهي غالبا من طبقة أرستقراطية أو إقطاعية ،بشر الفرسان بالحب واستنكروا الحروب والأحقاد ثم طغت النزعة الرومانسية بعد انحسار موجة الشعراء الجوالين فتخطى الرومانسيون مرحلة العشق الفروسي الحالم الملتاع المماثل لحب شعراء العصر الأموي في تراثنا و تصدوا -بحماس عاطفي - أواخر القرن الثامن عشر للثورة الصناعية والطبقة الأرستقراطية معا وثاروا على المعايير الطبقية وظهرت موجات من الرومانسيين الذين ارتبطوا بالإبداع الفني والأدبي وأرسوا قواعد المدرسة الرومانسية التي تعد العاطفة الخالصة ومشاعر الحب والشغف منبع الإبداع الوحيد ومصدر مباهج الحياة وأحزانها وعابوا على عصر التنوير فرط عقلانيته واعتماده الفلسفة المجردة، لكنهم ساندوا التنويريين في مناهضة التطرف الديني ورفض هيمنة اللاهوت على الحياة والسياسة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
استحال الحب -مع تراجع النزعة الرومانسية في القرن العشرين وأيامنا هذه - إلى سلوك شبه وثني وصار صنما تقام له طقوس عبادة وأحيطَ الحب -كفعل إنساني والمحبوب كموضوع عشق- بإضافات مغوية كالثياب المبهرة والمجوهرات والعطور وغاب الفهم الجوهري القائم على الحنو والألفة والرعاية والاهتمام بين المحبين وتحول الحب والعلاقة العشقية لدى أوساط عديدة إلى صفقة محسوبة بمعايير مصلحية وما عاد الحب المصطنع وغاياته قادرا على إيقاظ مكامن الجمال وإطلاق شرر الإبداع والأمل في أعماق الإنسان ليمنحه أسرار اللغة وسحر القول وفتنة التعبير ، فلطالما كان الحب هو الناطق بكل ما هو بارع وجميل مقابل عنف اللغة وخشونتها ويباسها عند دعاة العنف من غلاظ القلوب.
تحول أمر الرومانسية في زمننا إلى فعل ( ميثولوجي) طقوسي ، بعد أن أسهم الأدب والسينما والغناء في الترويج لنمط الحب المتسم بالفقدان والقسوة والعنف السادي والموت ،وأسبغت النصوص والأعمال الفنية كثيرا من العنف والجنون والهوس والكآبة المفضية إلى ربط الحب بالعذاب والموت .
واستجابت الصناعات الحديثة لسحر الميثولوجيا العاطفية و الشهوانية فأغرقت الأسواق بأشكال لا تحصى من الإضافات التي كرست وثنية الحب الرومانسي السطحي لدى العامة ( يوم الفالنتاين مثالا) والذي تحول إلى تجارة قائمة أخضعت الحب للتسويق وأسهمت في إضفاء هالة خادعة على حب متوهم ومجهول لدى الكثيرين ،ثم تفشت عمليات التجميل عند بعض الرجال و النساء لتفضح زيف المجتمعات الراهنة وسطحيتها وعدم قناعة الأشخاص بأنفسهم و افتقارهم إلى احترام حقيقي للذات فعاملوها كسلعة للبيع وجسد للاستهلاك في سلوك مُختل وإقرار بهشاشة روحية ترتضي تكييف جسد الإنسان وتصنيعه ليتطابق مع النموذج السائد في الإعلام و الأفلام والإعلانات والأغاني المصورة فأصبحت بعض المجتمعات العربية تضم نسخا متشابهة من الوجوه والأجساد المعدلة لتتوافق مع أجساد المشاهير ووجوههم . وباستفحال هذا الخلل الاجتماعي والنفسي كان للحب في مجتمعات مريضة كهذه أن يتحول إلى سلوك زائف يكشف خواء الروح وعوزها للكرامة وعجزها عن العطاء فازدهرت رومانسية سطحية شبقية هي مزيج من النزوات والتوهمات وانزوى الحب السامي بعيدا وحلت محله العلاقات القائمة على صفقات محسوبة تقمصت إهاب الحب وشوهت إنسانيته لتحل محله السلوكيات النفعية السوقية والتمثلات العاطفية الاستهلاكية العابرة.
أحب الناس الحب وتغنوا بفضائله وتظاهروا بتمجيده ثم عجزوا عن حب أنفسهم ومنح الثقة والحنو للمحبوب وامتثلوا لظاهرة التسليع في خسارة معلنة لإنسانيتهم.
يتبع
الحب من الزواج المقدس إلى النزهة الرومانسية..القسم الثاني: فرسان مسالمون ورومانسية وثنية
[post-views]
نشر في: 22 مارس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...