أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها لوحات محمد سعيد الصكار ، كان ذلك في شقة الفنان يوسف العاني الذي يحتفظ بذخيرة من كنوز الفن العراقي المعاصر ، كانت اللوحة تحتضن كلمة واحدة هي البصرة ، التي قال عنها في واحدة من اجمل ما كتب : " &n
أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها لوحات محمد سعيد الصكار ، كان ذلك في شقة الفنان يوسف العاني الذي يحتفظ بذخيرة من كنوز الفن العراقي المعاصر ، كانت اللوحة تحتضن كلمة واحدة هي البصرة ، التي قال عنها في واحدة من اجمل ما كتب : " ذهبت إلى البصرة وأنا أبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً قادماً من مدينة (الخالص) وهي قضاء بسيط الناس فيه غاية في البساطة، وعندما رحلت إلى البصرة وجدتها مدينة مدهشة جداً ومدينة منفتحة تماماً:مرصودٌ لاسمكِ ما أورق في ذاكرتي"ولوجهكِ ما ظلَّ من الأحلامِ بهذا الصحوِ القاسي.يا أولى الخطواتِ وأتعبَها،يا أولى العَثَراتِ وأصعبها،يا أولَ آمالِ العمرِ،وأوّلَ آلامي المفتوحةِ للريح،أوسّدها خدي، وأقول لعلّ نهايتَها تومضُ في أقصى العمرِ، لعلّ ..لعلَّ ..لعلّ البصرة تصحو،وأنام.
من هو الصكار ؟ هل هو صانع كتب؟ أم رسام ؟ أم مؤلف قصص ومسرحيات ؟ أم مصمّم صحف، أم شاعر؟ : "أنا أقرب إلى الشعر، لكنّ هناك رأياً يقول إنني شاعر في خطي وملوّن في شعري"، هكذا يعرف نفسه الفنان الذي يدنو من سنواته الثمانين.
بعد اكثر من نصف قرن من الخط والرسم والكتابة والاندماج بالحياة السياسية والثقافية ، ظل الصكار كمن يبحث "عن لون لا وجود له " ، لكنه يردد دائما أحاديثه ومقابلاته بسطرٍ من تأملات عبدالحق البغدادي الذي قال "حبري أسود فلا تطلبوا مني أن أرسم قوس قزح" ـ تجده على يقين بأنّه سيواصل العطاء رغم كل الظروف.
العبور إلى ذاكرة محمد سعيد الصكار مستحيل من دون المرور على محطات كثيرة مرت بحياته في المدن والحواضر المختلفة . تعود به الذاكرة إلى مدينة الخالص ، حيث مدرسته الابتدائية ، والتي له فيها ذكريات "فذات يوم كنت أتمشى عائداً من المدرسة وكان هناك دكان قديم فيه "كبنك " وكان صدئاً جداً وكتبت عليه كلمة واحدة هي ( رانيا ) بخط الرقعة وقد زحف الصدأ عليها أيضاً لكن يمكن قراءتها. وكنت أقف مبهوراً أمامها يومياً وأقف متسائلاً: كيف يستطيع أحد أن يخط بهذا الشكل؟! فرسخت تلك الكلمة في رأسي وبقيت في ذاكرتي وما زلت أرى صورتها حتى الآن، ومنذ ذلك الوقت قررت أن أعمل ما بوسعي حتى أكتب هكذا، بعده غادرت إلى البصرة ".
لاحقاً، صار يراقب على طريقته كل ما يتعلق بالخط والرسم "كان الصبيان في سني يخطون على الشوارع والحيطان بالطباشير والفحم ولكل صبي رفيقة في عمره من بنات المحلة، وأنا جئت جديداً الى المنطقة ولا أستطيع أن أكوّن علاقة مع أية صبية ، وأتذكر أني كتبت الى صديق لي في الخالص أقول له أن أول ما يتعلمه القادم الى البصرة: الحب والخط .وهذا كان عام 1947، وكانت لعبة الأطفال "الخط على الحيطان " تستمر معي وتتطور حتى صارت هواية ومن ثم قضية ومسؤولية. في البصرة تعلمت الخط، وكتبت أولى قصائدي وأولى قصصي، كذلك أول مسرحية أمثلها وأخرجها. وفيها شاركت في الحركة الوطنية والاعتصامات ومظاهرات الطلبة لاسيما في انتفاضة 1952 والقصائد المهربة والمحاكمة والحكم السياسي ".
لم ألتق محمد سعيد الصكار إلا متأخرا ، ولكنني كنت أتابع أخباره وأنظر إلى صورته بقامته الرشيقة وملامحه الدقيقة ، فيبدو لي أقرب ما يكون إلى عاشق ، غلبه العشق وهو يسير في شوارع البصرة ، فقفز في أول قطار مر به، لينزل إلى بغداد ويقيم فيها ، ، يتأمل بعيون مبهورة مساحة الجمال اللانهائية، في ما يبدعه الناس من فنون ومن قصص وأشعار وملاحم وأغان يسكنها فرح لا نهائى.. وشجن بلا حدود.وحين أتيحت لي فرصة مشاهدته ، تأكدت من ان هذا الرجل مسكون برائحة الصحف والمجلات ، والشعر والاهم الحروف وبالإيمان بأن فن الحروف – الخط- ينطوي على جماله الخاص الذي يمكن استلهامه وتطويره، وبأن حياة الناس تزدحم بأشكال من الخطوط ، لا تتطلب إلا عيوناً فاحصة ، تستطيع أن تفرق بين جمال الخطوط وقبح التصنع ، لذلك أمضى حياته يتجول بين المتاحف وخزانات الكتب القديمة وحوائط البيوت القديمة ، بحثاً عن جمال آخر ليجده في أشياء اندثر بعضها، زخارف البيوت القديمة ، أغلفة الكتب ، الرسوم التي زينت صفحات بعض المخطوطات القديمة .العيش في الجمال هو الذي جعل خطوط الصكار ورسومة المتميزة والمبتكرة، لا تقتصر على الصحف والمجلات والكتب، بل تتعداها إلى اللوحات الفنية ، التي يعود إليه الفضل في إدخال الخط إلى اللوحة التشكيلية ، وتحويله إلى عنصر بصري جمالي بعد ان كان عنصراً معرفياً لتتحول هذه اللوحات إلى عمل يجمع بين متعة المشاهدة والفكر، وبين الفائدة والمتعة البصرية.، التى سعى الصكار لإشاعتها، وكتب عنها فصولاً في كتبه المتعددة. ميزة أخرى يمتلكها الصكار، فإضافة إلى إصراره على العيش من اجل الجمال فانه أيضا يصر على عشق العمل، والإصرار.
منذ عقود انتقل الصكار إلى عالم الغربة الذي يحمل برودة المنطق وحرارة القلب، فعاش موزعا بين الحزن على حلم تهاوى والاحتجاج الصارخ على ما يكسر الحلم.. ظل مصرا دوما على أن يكون في الموقف الصحيح وان يقول ما يؤمن به وان يكون صورة للفنان الملتزم بقضايا الناس ، يدافع عن المبادئ النقية في معركة الحرية من دون أن يكترث لحسابات الربح والخسارة. يمزج بين الحلم والحياة.. تكون الحياة مصدر إلهامه ويكون الحلم صوت المستقبل الواعد، في أيامه الأخيرة .
رحل الصكار بعد ان حمل سنواته التي تعدت الثمانين بعيدا في المنافي، ترتجف اليد وتظل الذاكرة شابة تجول في شوارع بغداد والبصرة تصطاد حكايات العراقيين وأحلامهم وقلقهم وضياعهم وبؤسهم وتشردهم ومسراتهم وأفراحهم ونشم رائحة العراق كلما أطلت علينا حروف وقصائد فنان الشعب محمد سعيد الصكار.