اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > المثقف العربي والطاغية

المثقف العربي والطاغية

نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 04:53 م

كيف يمكن تفسير تواطؤ قسم كبير من المثقفين العرب مع الطغاة، كما حصل، مثلا،  مع صدام حسين، ويحصل الآن مع بشار الأسد؟ كيف يتحول "حملة الثقافة الطليعية"، والرافعون ليل نهار شعارات الحرية والتنوير، إلى دببة ترقص، إذا استعرنا تعبير ايميه سيزير، على إيقاعات مذابح قل نظيرها في التاريخ الحديث، مذابح لا تجري في مكان ما، وضد بشر في الواق واق، وإنما في أماكنهم هم، وضد ناسهم هم؟ كيف يتحول المثال الثقافي والجمالي، الذي طالما سعى المثقف إلى تحقيقه، أو هكذا كان يبدو،  إلى تواطؤ مخز مع الواقع القبيح؟  

في كتابه المهم "كل ما هو صلب يصير هباء" يشبه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان مثقفي العالم الثالث، حملة الثقافة الطليعية، بفاوست. فهم مثله يعيشون تمزقا حادا بين المثال الثقافي والرغبة الجامحة بالتطور، وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيشون. لقد عاش فاوست الشاب حالما ينتمي إلى عالمه الداخلي أكثر مما ينتمي إلى الخارج. وكلما اتسعت دائرة عقله زادت حساسيته عمقاً، وتنامى نزوعه للاعتزال، وهذا يؤدي، بالنتيجة، إلى فقر علاقته بالخارج. لكن فاوست الناضج سينتصر على هذا التمزق التراجيدي، وعلى تلك الثنائية القاتلة بين "ثبات الحياة ودفئها، الحياة اليومية المعاشة في إطار نسيج جماعة ملموسة- وبين الثورة الفكرية التي حدثت في رأسه". هذا الانتصار، حسب بيرمان، يتم عبر تطور دائري، تدريجي مؤلم، على مستوى البناء النفسي والعقلي حتى يلتقي البناءان عند نقطة معينة ينبثق منها وعي حقيقي يسميه بيرمان بـ"الوعي الفاوستي"، وهو الوعي بضرورة العمل مع جماعة حقيقية. ليس العمل معها فحسب، وإنما العمل من أجلها أيضا.
لكن بيرمان، في رأينا، يذهب بعيدا في المقارنة بين فاوست والمثقفين في البلدان المتخلفة. إنه يستعير ما قاله ماركس عن غوته ليطبقه على هؤلاء المثقفين بالرغم من الاختلاف الذاتي والموضوعي الهائل. لقد كان ماركس يؤمن بأن غوته، كشخص، قد تجاوز شروط مجتمعه نتيجة قوة روحية وفكرية هائلة تحققت في لحظة زمنية نادرة. وهو أمر تحقق لشخصيات قليلة نادرة في التاريخ الإنساني، منهم في اعتقادنا شكسبير وماركس نفسه.
لكن مثقف البلدان المتخلفة ما يزال يعيش في مجتمعات راكدة مغلقة تتوزع بين هياكل سلطوية رثة، وأخرى ذات نزعات كليانية أو فاشية (فرأس المال المالي ليس الأب الوحيد للفاشية كما قال مرة بالميرو تولياتي، قائد ومنظر الحزب الشيوعي الإيطالي)، ترسخت مع مرور الزمن كمفاهيم اجتماعية- ثقافية، وشكلت جزءا من تركيبنا النفسي دون أن نعي.  
كل ذلك لا يؤدي إلى إنتاج ظاهرة مثل ظاهرة فاوست، وإنما العكس تماما. إنه لا ينتج سوى شخصية مثل شخصية دون كيخوته في أحسن الأحوال. وقد عرفنا مثل هذه الشخصية في واقعنا العربي كثيرا، لكنها للأسف لم تعد موجودة، أو نادرة. لقد حلت محلها الشخصية التوافقية، المزدوجة، السائبة إلى درجة يصعب تصنيفها.
إن ما نشهده الآن عند قسم كبير من مثقفي البلدان العربية هو نشوء وعي زائف يعيد ترتيب الأشياء، في ميدان الممارسة العملية والفكرية، نتيجة الشروط التي ولدها، ويفرضها،  الضغط الهائل للتراكم التاريخي المتخلف، والقمع السلطوي والاجتماعي العنيف، من دون أن يخلقا معهما نقيضهما القادر على تجاوز شروطهما. وتبدو خيارات المثقف، بالمقابل، خيارات محدودة: الخيار الأول هو الهامشية أو النفي الاختياري، في محاولة لتجاوز الشروط. لكنه تجاوز زائف. فالهامشي يتصور أنه وضع تلك الشروط جانبا، بينما هو يعيش في القلب منها. والمنفي يتصور أنه وضعها وراءه، بينما هي ما تزال أمامه. إنه تجاوز زائف، لأن التجاوز الحقيقي لا يتحقق إلا عبر مواجهة هذه الشروط. وهذه المواجهة بدورها لا تحقق غرضها إلا عبر وعي تاريخي واجتماعي يسمح بفهم جوهرها، وتفكيكها إلى عناصرها الأولية، وبالتالي امتلاكها ذهنياً. وهي بالطبع مواجهة جدلية معقدة يتصارع فيها السلب والإيجاب، واليأس والأمل، ربما لعشرات السنين. وهي، أخيراً، مواجهة تبدو مستحيلة في الظروف التي نعيش. ولكنها تحققت قبل ذلك بقرون في فرنسا التنوير، مع مونتسكيو وروسو وديدرو وفولتير الذين مهدت أفكارهم للثورة الفرنسية التي غيرت العالم كله.
أما الخيار المزيف الآخر، فهو التوافق، وهو العلة التي تنخر في أجسادنا الآن. لقد تعب المثقف الزيفي، الذي عرفناه في الستينات، وتخلى عن شروطه المسبقة للتفاوض مع الواقع والمجتمع، وعن مسعاه العبثي، لكن النبيل، وخضع لشروط المؤسسة، سياسية كانت أم ثقافية. إننا نعيش عصر التوافق. لكن إذا كان التوافق عند المثقف الغربي، الذي يعيش في مجتمعات مدنية راسخة، يعني القبول بالقيم السائدة في هذه المجتمعات، وهي قيم إنسانية ترسخت بعد قرون طويلة من الكفاح مهد له مفكرو التنوير، فإن التوافق عند المثقف العربي عموما يعني القبول بسلطة الأمر الواقع، بمختلف أشكالها، في ظل غياب المجتمع المدني الفعال.
وهنا سيقوم الوعي، أو اللاوعي، بعملية إحلال كبيرة. سيحل الدكتاتور محل فاوست أو سيزيف. ولم لا؟ ألم يحل هيغل نابليون محل روح التاريخ؟ الروح العليا، روح الدولة! سيلجأ المثقف المهبط، الذي لا يمكن أن يعيش من دون "مثل عليا"، إلى صناعة الوهم لإيجاد المبررات الفكرية لتحولاته، أو في الحقيقة تواطئه، وليستعيد، من خلال هذه العملية، توازنه النفسي لأن عملية الانفصال لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الانتحار. وهكذا تستمر عملية خداع الذات لتصل إلى أقصى تحققها باتخاذ شكل نظري أو ثقافي. من أراد أن يحلل بنية العقل العربي، اتخم مسامعنا بحكاية هيغل مع نابليون، وخلع عقال صدام حسين ليلبسه قبعة بسمارك، كما فعل الجابري، ومن دعا إلى تحرير الإنسان العربي و"تحريك الواقع الساكن"، يستنكر على مواطنيه أن يحركوا هذا الواقع الساكن، بل المتعفن منذ أربعة عقود، بحجة إنهم خرجوا من المساجد، كما يذهب أدونيس، مثلاً،  ونسي أنهم في دمشق وليس في فيينا ليخرجوا من دور الأوبرا. وحتى لو فعلوا ذلك افتراضا، سيبقى موقف مثل هذا المثقف هو ذاته، لأن أي عملية تغيير جذري في الواقع ستقلب كل الأسس التي استندت إليها ثقافته وقناعاته. وإذا تفحصنا الأمر مليا، سنجد أن مثل هؤلاء المثقفين، هو نتاج ثقافة هرمية، وليست أفقية يستفيد منه جميع الناس، تستهجن العمل مع جماعة حقيقية من جهة لأنها ستفضح كل تنظيراته المجانية التي لا تكلفه أي ثمن، وتستشعر، من جهة أخرى، الخطر على أناها التي تضخمت كنتيجة حتمية لسيادة الثقافة الهرمية، التي هي سمة رئيسية في مجتمعات العالم المتخلفة، حيث الجهل والتجهيل، وغياب المؤسسات السياسية والثقافية الديمقراطية فعلاً.  
إن مثل هذه المواقف تعيد وستعيد إنتاج نفسها إذا تكررت الظروف نفسها، وهي غالبا ما تتكرر وإن بأشكال أخرى وديكور آخر، ما دامت ظاهرة الطغيان قائمة، كما إن عملية التغيير الحقيقي، على مستوى الوعي والممارسة، هي عملية بشرية طويلة تحتاج إلى مراجعة صارمة ومؤلمة للذات والمواقف قد تستمر سنوات، وهي تتطلب منا أن نتمتع بقيمة أخلاقية عليا، وشجاعة استثنائية لإعادة بناء منظومة متكاملة منسجمة فكريا وثقافيا وإنسانيا.
إن الإنجاز الروحي الذي نفتقر إليه هو شيء غير كتابة القصيدة الناجحة أو الرواية الناجحة. وللأسف، ما نزال بعيدين جدا عن نموذج المثقف الذي يتجسد فيه "غنى المنظور التاريخي، والعمق الأخلاقي، والذكاء والحساسية"، إذا استعرنا تعبير بيرمان. إن مثل هذا النموذج، الذي تحقق في الغرب بعد تراكم طويل، ومنعطفات تاريخية واجتماعية خطيرة، هو الذي يقف وراء الانجازات الروحية الهائلة التي تحقق بدرجات مختلفة في هذا البلد أو ذاك، ابتداء من ديكارت وكانت مرورا بهيغل وماركس إلى سارتر ودريدا. هؤلاء فتحوا كوى جديدة في الوعي الذاتي والجمعي. وما كان يميزهم جميعا ولعهم بـ" التنمية والتطور"، حسب تعبير بيرمان مرة أخرى، حيث تكمن القوة الحيوية التي تغير العالم، وهو ما حاولوا تعليمه للناس أيضاً. لم يكن هؤلاء منفتحين على التغيرات في الشخصية الإنسانية وفي البنى الاجتماعية فحسب، بل كانوا يناضلون من أجل تفتحها، وإيصالها إلى حدودها القصوى انسجاما مع دورهم الإنساني والأخلاقي. وقبل كل شيء، كانوا مستعدين لتجرع السم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram