تبدو كتب السيرة العربية في معظمها مملة باردة محشوة بتفاصيل لا قيمة لها ،بالنسبة لساردها وقارئها وتتحدث غالبا عن أشياء من خارج الشخصية وامتداداتها وعلاقاتها الاجتماعية دون الولوج الى اعماق النفس وكشف بواطنها وميولها وكبواتها واخطائها ،وفي اغلب كتب السيرة العربية نعثر على قوائم وتواريخ تحيل السيرة الى سجل حكومي وتاريخي للاحداث دون ان يتعمق كاتب السيرة الى جوانب تحليلية للحدث او يقدم تفسيراته الذاتية وموقفه مما يجري فتغدو السيرة اقرب الى تقرير وظيفي عن حياة خارجية ممتدة افقيا دون غوص في عمق نفسي او مجتمعي ، ويغلب الوصف السطحي والاطراء المجاني على الافق الشخصي والقناعات الفكرية والهواجس والمخاوف وكأننا ازاء تقرير اخباري عن شخصية اخرى غير الكاتب الذي نتوق لمعرفة مواقفه ومكابداته الروحية والفكرية ..
تقول الروائية الفرنسية آني آرنو ( ان ضمير المتكلم المفرد هو علامة السيرة الذاتية لكنه ايضا وسيلة لأن نروي عن العالم المحيط بنا شرط ان لا يتعلق الامر بسيرة ذاتية تركز بطريقة غبية على الجانب الذاتي الظاهري فقط ، فأنا استخدم صور الذاكرة وشذرات اليوميات لأتمكن من التعبير عن الحميمي الشخصي والتاريخي في آن معا وعن تحولات الحياة والذاكرة) بينما تكتب الفريدا يلينيك سيرتها الذاتية بصيغة روائية في رواية ( عازفة البيانو) وتبدو الفريدا حاضرة في كل عبارة وكل كلمة ويراها القارئ ويحسها باستمرار فهي تخاطب قراءها مباشرة ثم تبقى خارج القصة عن قصد وتصميم ثم تقول عن بطلة روايتها عازفة البيانو ( ايريكا هي الفتاة التي كنتها ) وفي روايات يلينيك يتراجع الحدث الى الخلفية بينما تتصدر التفاصيل التي يعنى بها كتاب السيرة والمذكرات ..
وتعترف (دوريس ليسينغ ) ان روايتها المهمة ( مذكرات من نجا) ترجمة محمد درويش و الصادرة 1990 عن دار المأمون ، إنما هي محاولة في السيرة الذاتية حيث تعرض فيها مشاهد من طفولتها لتمثلها بشخصية الطفلة واليافعة والمراهقة ( اميلي ) وانها استخدمت مشاكل طفولتها.
ويصرح ( لوكليزيو ) ان روايته ( الباحث عن الذهب ) هي سيرة ذاتية اكثر منها رواية اذ تعتمد في معظم فصولها على تفاصيل من حياته مع عائلته في جزر موريشيوس والشخصية الرئيسية تنطبق عليها جميع الصفات والمواصفات التي تتسم بها شخصية لوكليزيو ..
على الجانب العربي لا نجد روائية واحدة او روائيا واحدا يعترف بأن في رواياته ظلالا من السيرة الذاتية فالكل عندنا يتخفى وراء مثالية مفرطة يتجنب معها ان ينسب لنفسه خطايا بطل من ابطاله ، ويعود ذلك الى اسباب اساسية في تكوين الشخصية العربية والمسلمة وهي النزعة ( الجوانية ) السرانية والغنوصية التي تحتفي بها الاخلاقيات الاجتماعية الشرقية ، بينما تنفتح الشخصية الغربية على فكرة ( الاعتراف ) انطلاقا من منبعها الديني. فالغربي يعترف ويبوح ويعلن ليشفى والشرقي العربي ينغلق ويكتم لتتعقد حياته وقد تناولت هذا الموضوع ضمن مقالة سابقة عنوانها ( نحن جوانيون وهم منفتحون ) ولذا نجد كتب السيرة العربية منمقة الى ابعد الحدود ومشذبة مثل حديقة هندسية استخدم فيها المزارع مبيدات اخلاقية قضت على العفوية والتلقائية وتغافلت عن عمر التفتح والشهوات والخبرات الروحية والجسدية الاولى و نعثر في كتب السيرة الغربية على ما يشبه غابة طبيعية فيها الضوء والظل والافاعي والقنافذ والينابيع ومواسم التزاوج والجنس والاهواء الانسانية والنزوات والتكاثر ومواجهة المخاطر بينما يكتب العربي سيرته وكأنه يتعاطى مع ملاك بريء من كل اثم وخطيئة
السيرة والمذكرات والرواية
[post-views]
نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 04:55 م
جميع التعليقات 1
محمدصدام
لوسمحتم هل لي أن أعرف كاتب المقال إريد أن أستعين بجزء منه في بحثي ولكم وافر الود والمحبة