مازال الموضوع العربي حيوياً في السينما الوثائقية، ويمكن تلمس ذلك في الدورة الحالية لمهرجان تسالونيكي، ومردّ ذلك، كما يبدو، إلى حيوية الحراك في المنطقة، وما يوفره من أفكار ومشاريع تغوي صناع السينما للمجيء إليها، هذا بالنسبة للمخرجين الأجانب، أو الخوض
مازال الموضوع العربي حيوياً في السينما الوثائقية، ويمكن تلمس ذلك في الدورة الحالية لمهرجان تسالونيكي، ومردّ ذلك، كما يبدو، إلى حيوية الحراك في المنطقة، وما يوفره من أفكار ومشاريع تغوي صناع السينما للمجيء إليها، هذا بالنسبة للمخرجين الأجانب، أو الخوض فيها بسهولة ويسر بالنسبة لأبنائها من المختصين بالسينما الوثائقية. والأسباب المشجعة نفسها، تحمل في طياتها مخاطر الانزلاق في العُجالة والسطحية، كما انعكس في المنتج السينمائي العربي خلال فترة تنامي الثورات العربية. وقتها ظهر كمُ كبير بمستوى ساده الضعف، في حين حافظ الإنتاج الغربي في عمومه على مستواه الجيد وفرضت علينا المقارنة الموضوعية بين طريقتي الشغل في ما يخص تناول الحدث الواحد. هذا على مستوى أفلام "الربيع العربي" ولكن وحين عالجت أفلام وثائقية عربية موضوعات أخرى، فإننا نتلمس تطوراً ملحوظاً فيها، خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بخاصة المنتج اللبناني، الذي توقعنا له أن يزدهر في هذا البلد الصغير ويتفوق على غيره من البلدان العربية، بمقدار مقارب يمكن الحديث عن الوثائقي المغاربي، الذي نجد في بعض مفرداته ميلاً للعمل الجدي والمتروي. في الدورة الـ16 لتسالونيكي لم يعد "الربيع العربي" مغرياً، ولهذا نجد تراجعاً في كم الأفلام التي اقتربت منه، وبدلاً منها، توجه صناع الوثائقي إلى تناول موضوعات ذات صلة بهوامش الحراك العاصف، دون الاهتمام بسطحه الظاهري، كما تجلى في مجموعة أفلام عرضتها الدورة الحالية من بينها: "العودة إلى حمص"، "مصنع البلطجية" و"قتلها تذكرة للجنة".
من المؤكد أن شغل ديركي في "العودة إلى حمص" فيه الكثير من التميز على مستوى الصنعة، والأميز فيه تصويره وفريقه الذي اشتغل بمستوى احترافي عبر التصاقه الدائم بالحدث والاقتراب كثيراً من شخوصه المنتمين إلى الواقع وتفاصيله المخيفة والخطرة على أرواحهم، ما نتج عنها: صورة جيدة منقولة من أتون الحرب الطاحنة. على المستوى الدرامي عرف ديركي كيف يلملم موضوعاً خطراً قابلا للتشظي، عبر تركيزه على شخصيات محورية قليلة تمكن من خلالها نقل المشهد العام للمدينة والأحداث التي أراد تسجيلها في مكان وزمن محددين، ما ساعد عملية المنتجة اللاحقة ليغدو الفيلم متسقاً في مساره الدرامي، متماسكاً عبر مراقبة دقيقة لحركة عبد الباسط ساروت لاعب كرة القدم الذي زجته الأحداث والظلم الذي سُلط على أبناء منطقته إلى الثورة، وصار واحداً من قادتها الميدانيين، إلى جانب تمتعه الدائم بجاذبية وصوت جميل وأقدام صادق استثمره صانع الوثائقي بأفضل شكل وهو من ساعد على توفير صدقية كبيرة لفيلمه. المعادلة في حالة ساروت سهلة ومعقدة في آن على مستوى الصنعة: بمقدار ما يمثل ساروت نموذجاً للشاب الصادق المؤمن بقضيته، والذي يفسح له الآخرون الدرب للبروز في مواجهة الكاميرا بمقدار ما يترافق معه خطر ذهاب الفيلم لعرض "بورتريت" من الثورة وهذا ما لم يكن يريده ديركي، لذلك حاول تقريب زميله المصور إلى جانبه ليخلق توازناً على مستوى الشخصية الرئيسية .وبهذا تمكن الفيلم من توفير نماذج متفردة، لكنها ليست استثنائية إلا بمقدار دورها في الواقع والذي أبقى عليه الوثائقي لنتمكن من مشاهدة تفاصيل يوميات المعارك وتطورها من مستويات أولية سلمية إلى دموية. "العودة إلى حمص" دون شك فيلم جيد وربما من بين أفضل الوثائقيات التي تناولت حدثاً آنياً، وبسبب طبيعته هذه وارتباطاً بالمشكلة السورية فإن ثمة أسئلة تفرض نفسها على مستوى الموضوع ،من بينها غياب دور المنظمات الإسلامية المتطرفة، وهل كانت بالفعل خارج المشهد الحمصي حين صور فيلمه؟ وأيضاً بمقدار ما يتعلق برؤية صاحبه إلى الحدث السياسي الذي أنتج يوميات معارك حمص وصراعها العسكري، فإن سؤالاً ملحاحاً يخطر على البال حول موقفه النقدي من المرحلة التي تمر بها سوريا، رغم طبيعة الحدث المنقول والذي لا تمنع آنيته من أن يسجل صانعه موقفه من مجمل الصراع وبشكل خاص من الطرف الذي يميل موضوعياً إليه منطلقين من اعتبار نظري يقول :إن اختيار أي موضوع يمثل انحيازاً واعياً إليه، وبالتالي يحتمل مناقشة صانع الوثائقي حول موقفه منه. السؤال بذاته لا يفرض طبعاً أي نوع من الحكم حول وجود مقدار من "البروباغاندا" فيه، بل يتجاوز إلى البحث عن أجوبة لأسئلة عصية يطرحها الفيلم نفسه، على مشاهده ،وهنا تكمن في الحقيقة أهمية "العودة إلى حمص" فبمقدار ما يقدم مشهداً جلياً عن الدمار الذي تتعرض له حمص وسكانها بمقدار ما يزيد من كم الأسئلة المتعلقة بأسباب كل ما يحدث والأخطر إلى أين سيؤدي مسار الأحداث وكم من الخراب ينتظر حمص وغيرها في مقبل الأيام؟
على مستوى مختلف تأخذنا المخرجة اليمنية خديجة السلامي في فيلمها الوثائقي "قتلها تذكرة للجنة" قضية الصحافية بشرى المقطري وإصدار بعض علماء الدين اليمنيين فتوى بسفك دمها بسبب مقالة كتبتها بعنوان "سنة أولى ثورة" اتهموها بأنها قد تضمنت إساءات إلى الذات الإلهية، مع أن القراءة في المقاطع موضع الجدل والاتهام، التي تضمنها الشريط تنفي التهمة عنها، وتؤكد سوء الطوية المتعمد في قراءة خارجية تُحمّل نصها ما لا يحتمل، لأغراض أخرى حاولت السلامي التركيز عليها في مقدمتها لجم الأصوات المنتقدة لمسار الحراك الشعبي اليمني وفضح محاولات القوى المحافظة ركوب الموجة وحرف أهداف الثوار الشباب عن طريقها. في شخصية الصحافية اليمنية ما يصلح لرسم بورتريت جميل لواحدة من الناشطات الشجاعات اللواتي تحدين السلطة وأتباعها، بمواقف واعية ،فهي كاتبة وصحافية قادرة على التعبير عن أفكارها بشكل جيد، ومع هذا فقد سعت السلامي إلى إحاطة القضية بالتفاصيل المهمة التي تعكس المواقف النقدية للكثير من مؤيدي الثورة من تطوراتها وإدراكهم لحجم المخاطر التي تحيط بالكاتبة وعائلتها كنموذج مصغر يمكن تكبيره على نطاق أوسع لتبيان حجم الضغط الممارس من قبل المحافظين لإخراس تلك الأصوات. في تصويرها لمشهد مغادرتها منزلها إلى الخارج، تكثف السلامي تبعات أفعالهم وقلة صبرهم على سماع أصوات غير أصواتهم ،وبالتالي ستؤدي تهديداتهم إلى تفريغ البلاد من قوى طليعية بلادهم أحوج من غيرها إليهم، وما تسجيلات انطباعات المقطري لزيارتها مدناً وقرى بعيدة عن مدينتها تعز إلا توضيح لحجم التخلف الموجود في مناطق كثيرة في اليمن تحتاج لتغييرها نحو الأحسن إلى صوت المقطري ووعيها المتقدم. "قتلها تذكرة للجنة" يضاف إلى رصيد السلامي من أفلام موضوعاتها الرئيسة: المرأة اليمنية، التي تحاول تقديمها وسط علاقاتها الاجتماعية وما تتعرض له من ظلم وحيف تجد في تسجيله وثائقياً مساهمة منها في عرضه على نطاق واسع من أجل مناقشته والبحث في جذوره وأسبابه.
مازال الموضوع العربي حيوياً في السينما الوثائقية، ويمكن تلمس ذلك في الدورة الحالية لمهرجان تسالونيكي، ومردّ ذلك، كما يبدو، إلى حيوية الحراك في المنطقة، وما يوفره من أفكار ومشاريع تغوي صناع السينما للمجيء إليها، هذا بالنسبة للمخرجين الأجانب، أو الخوض فيها بسهولة ويسر بالنسبة لأبنائها من المختصين بالسينما الوثائقية. والأسباب المشجعة نفسها، تحمل في طياتها مخاطر الانزلاق في العُجالة والسطحية، كما انعكس في المنتج السينمائي العربي خلال فترة تنامي الثورات العربية. وقتها ظهر كمُ كبير بمستوى ساده الضعف، في حين حافظ الإنتاج الغربي في عمومه على مستواه الجيد وفرضت علينا المقارنة الموضوعية بين طريقتي الشغل في ما يخص تناول الحدث الواحد. هذا على مستوى أفلام "الربيع العربي" ولكن وحين عالجت أفلام وثائقية عربية موضوعات أخرى، فإننا نتلمس تطوراً ملحوظاً فيها، خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بخاصة المنتج اللبناني، الذي توقعنا له أن يزدهر في هذا البلد الصغير ويتفوق على غيره من البلدان العربية، بمقدار مقارب يمكن الحديث عن الوثائقي المغاربي، الذي نجد في بعض مفرداته ميلاً للعمل الجدي والمتروي. في الدورة الـ16 لتسالونيكي لم يعد "الربيع العربي" مغرياً، ولهذا نجد تراجعاً في كم الأفلام التي اقتربت منه، وبدلاً منها، توجه صناع الوثائقي إلى تناول موضوعات ذات صلة بهوامش الحراك العاصف، دون الاهتمام بسطحه الظاهري، كما تجلى في مجموعة أفلام عرضتها الدورة الحالية من بينها: "العودة إلى حمص"، "مصنع البلطجية" و"قتلها تذكرة للجنة".
من المؤكد أن شغل ديركي في "العودة إلى حمص" فيه الكثير من التميز على مستوى الصنعة، والأميز فيه تصويره وفريقه الذي اشتغل بمستوى احترافي عبر التصاقه الدائم بالحدث والاقتراب كثيراً من شخوصه المنتمين إلى الواقع وتفاصيله المخيفة والخطرة على أرواحهم، ما نتج عنها: صورة جيدة منقولة من أتون الحرب الطاحنة. على المستوى الدرامي عرف ديركي كيف يلملم موضوعاً خطراً قابلا للتشظي، عبر تركيزه على شخصيات محورية قليلة تمكن من خلالها نقل المشهد العام للمدينة والأحداث التي أراد تسجيلها في مكان وزمن محددين، ما ساعد عملية المنتجة اللاحقة ليغدو الفيلم متسقاً في مساره الدرامي، متماسكاً عبر مراقبة دقيقة لحركة عبد الباسط ساروت لاعب كرة القدم الذي زجته الأحداث والظلم الذي سُلط على أبناء منطقته إلى الثورة، وصار واحداً من قادتها الميدانيين، إلى جانب تمتعه الدائم بجاذبية وصوت جميل وأقدام صادق استثمره صانع الوثائقي بأفضل شكل وهو من ساعد على توفير صدقية كبيرة لفيلمه. المعادلة في حالة ساروت سهلة ومعقدة في آن على مستوى الصنعة: بمقدار ما يمثل ساروت نموذجاً للشاب الصادق المؤمن بقضيته، والذي يفسح له الآخرون الدرب للبروز في مواجهة الكاميرا بمقدار ما يترافق معه خطر ذهاب الفيلم لعرض "بورتريت" من الثورة وهذا ما لم يكن يريده ديركي، لذلك حاول تقريب زميله المصور إلى جانبه ليخلق توازناً على مستوى الشخصية الرئيسية .وبهذا تمكن الفيلم من توفير نماذج متفردة، لكنها ليست استثنائية إلا بمقدار دورها في الواقع والذي أبقى عليه الوثائقي لنتمكن من مشاهدة تفاصيل يوميات المعارك وتطورها من مستويات أولية سلمية إلى دموية. "العودة إلى حمص" دون شك فيلم جيد وربما من بين أفضل الوثائقيات التي تناولت حدثاً آنياً، وبسبب طبيعته هذه وارتباطاً بالمشكلة السورية فإن ثمة أسئلة تفرض نفسها على مستوى الموضوع ،من بينها غياب دور المنظمات الإسلامية المتطرفة، وهل كانت بالفعل خارج المشهد الحمصي حين صور فيلمه؟ وأيضاً بمقدار ما يتعلق برؤية صاحبه إلى الحدث السياسي الذي أنتج يوميات معارك حمص وصراعها العسكري، فإن سؤالاً ملحاحاً يخطر على البال حول موقفه النقدي من المرحلة التي تمر بها سوريا، رغم طبيعة الحدث المنقول والذي لا تمنع آنيته من أن يسجل صانعه موقفه من مجمل الصراع وبشكل خاص من الطرف الذي يميل موضوعياً إليه منطلقين من اعتبار نظري يقول :إن اختيار أي موضوع يمثل انحيازاً واعياً إليه، وبالتالي يحتمل مناقشة صانع الوثائقي حول موقفه منه. السؤال بذاته لا يفرض طبعاً أي نوع من الحكم حول وجود مقدار من "البروباغاندا" فيه، بل يتجاوز إلى البحث عن أجوبة لأسئلة عصية يطرحها الفيلم نفسه، على مشاهده ،وهنا تكمن في الحقيقة أهمية "العودة إلى حمص" فبمقدار ما يقدم مشهداً جلياً عن الدمار الذي تتعرض له حمص وسكانها بمقدار ما يزيد من كم الأسئلة المتعلقة بأسباب كل ما يحدث والأخطر إلى أين سيؤدي مسار الأحداث وكم من الخراب ينتظر حمص وغيرها في مقبل الأيام؟
على مستوى مختلف تأخذنا المخرجة اليمنية خديجة السلامي في فيلمها الوثائقي "قتلها تذكرة للجنة" قضية الصحافية بشرى المقطري وإصدار بعض علماء الدين اليمنيين فتوى بسفك دمها بسبب مقالة كتبتها بعنوان "سنة أولى ثورة" اتهموها بأنها قد تضمنت إساءات إلى الذات الإلهية، مع أن القراءة في المقاطع موضع الجدل والاتهام، التي تضمنها الشريط تنفي التهمة عنها، وتؤكد سوء الطوية المتعمد في قراءة خارجية تُحمّل نصها ما لا يحتمل، لأغراض أخرى حاولت السلامي التركيز عليها في مقدمتها لجم الأصوات المنتقدة لمسار الحراك الشعبي اليمني وفضح محاولات القوى المحافظة ركوب الموجة وحرف أهداف الثوار الشباب عن طريقها. في شخصية الصحافية اليمنية ما يصلح لرسم بورتريت جميل لواحدة من الناشطات الشجاعات اللواتي تحدين السلطة وأتباعها، بمواقف واعية ،فهي كاتبة وصحافية قادرة على التعبير عن أفكارها بشكل جيد، ومع هذا فقد سعت السلامي إلى إحاطة القضية بالتفاصيل المهمة التي تعكس المواقف النقدية للكثير من مؤيدي الثورة من تطوراتها وإدراكهم لحجم المخاطر التي تحيط بالكاتبة وعائلتها كنموذج مصغر يمكن تكبيره على نطاق أوسع لتبيان حجم الضغط الممارس من قبل المحافظين لإخراس تلك الأصوات. في تصويرها لمشهد مغادرتها منزلها إلى الخارج، تكثف السلامي تبعات أفعالهم وقلة صبرهم على سماع أصوات غير أصواتهم ،وبالتالي ستؤدي تهديداتهم إلى تفريغ البلاد من قوى طليعية بلادهم أحوج من غيرها إليهم، وما تسجيلات انطباعات المقطري لزيارتها مدناً وقرى بعيدة عن مدينتها تعز إلا توضيح لحجم التخلف الموجود في مناطق كثيرة في اليمن تحتاج لتغييرها نحو الأحسن إلى صوت المقطري ووعيها المتقدم. "قتلها تذكرة للجنة" يضاف إلى رصيد السلامي من أفلام موضوعاتها الرئيسة: المرأة اليمنية، التي تحاول تقديمها وسط علاقاتها الاجتماعية وما تتعرض له من ظلم وحيف تجد في تسجيله وثائقياً مساهمة منها في عرضه على نطاق واسع من أجل مناقشته والبحث في جذوره وأسبابه.