التجربة التي عاشتها ماليزيا خلال الأسابيع الماضية اثبتت أن الفعل البشري الحر يمكن ان يفعل الكثير اذا توافرت له الإرادة والرؤية الصادقة، وكأنها تريد ان تقدم نموذجا جديدا للبشرية، نموذجاً يحترم الانسان ويقدر قيمة الحياة، نموذجاً يسهر من اجل البحث عن مصير ركاب طائرة، تقطعت بهم امال الحياة.
فقد ذهبت والى الابد تلك الايام التي كان فيها الحكام يدفنون العشرات في مقابر جماعية، خفت صوت الحاكم المتسلط ليعلو صوت المسؤول الذي تؤكد كلماته دوما ان شرف الرسالة في العيش لا في الاستسلام، ثمة مؤهلات لابد من ان يحملها من يسعى الى الحكم اولها الشجاعة، حمل عبد الكريم قاسم شرف الجمهورية الاولى على كتفيه وهو يواجه القصف، لم يصغ الى صوت الطائرات والمدافع وانما الى صوت الناس الذين استأمنوه مستقبلهم وخيرهم وابنائهم، والثانية هي النزاهة، فقد ظل ديغول يرفض ان يرى ابنه الاميرال في البحرية يتولى اي منصب مهم الا بعد خروج الأب من الإليزيه.
ابطال الزمن الحالي، رجال مثل لولا دا سيلفا، عامل مصنع الحديد، الذي عندما قرر ان يقاتل الفقر، لم يجعلها معركة ثأرية بل جعلها حربا من اجل فقراء البرازيل، لم يطل "لولا" الخطب واحاديث الاربعاء وبرامج "انا معكم" بل اطال العمل والجهد وتعمق في محبة الناس، لقد شهدت بلدان العالم، ولادة صنف جديد من الابطال: سوف يأخذون البلاد الى الحرب على الفقر والامراض والجهل والامية.
كأنما الدرس الذي اعطته ماليزيا موجه على نحو خاص، الى بلد الحكومة التي رفض رئيس مجلس وزرائها اختيار وزيرين للداخلية والدفاع، فالجميع مدججون بعبارات الرفض، رافعين شعار "وحدي وليذهب الجميع الى الجحيم"، مجبولون على كره الحوار، يأنفون من ثقافة الشراكة السياسية. فيعيش الشعب معهم على الهامش، عشرات الآلاف من العراقيين خاضوا حرب الحياة مع الارهاب والمليشيات، لم يجدوا حتى اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة اي مسؤول يقف منتظرا عسى ان يتم إنقاذهم، فيما الساسة والمسؤولون يذهبون صوب ميكرفونات الاعلام يبثون يحتجون وينددون فيما عوائل الضحايا لاتزال حتى هذه اللحظة تنتظر من يمد يده اليها لينقذها من العوز والفقر والتشرد، لركاب طائرة واحدة تقف ماليزيا باكملها ويخرج رئيس الوزراء على مواطنيه معتذراً باكياً يخصص ملايين الدولارات لأسرى الضحايا، فيما تخلى مسؤولونا عن انقاذ ضحايا بهرز الذين تحولت بيوتهم الى مقابر جماعية، الحكومات الفاعلة تفتح طرق الحياة مع مواطنيها، فيما يشيد ساستنا الاشاوس قبورا للناس من اجل تخليصهم من هموم الحياة ومتاعبها.
منذ سنوات ونحن نعيش في ظل تهريج أمني، نستطيع أن نطلق عليه غفلة وتقصيرا وإهمالا وشراء ذمم، دون ان يتم عقاب سريع للقيادات الأمنية المسؤولة عمّا جرى ويجري من كوارث، من يتفحص سيناريو المأساة التي حدثت في "بهرز" واطراف اخرى من ديالى خلال الايام الماضية سيصاب بالصدمة والدهشة حين يعلم أنها وقعت في بلد به أكثر من مليون منتسب للقوات الأمنية، وبه رئيس وزراء يتولى مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة ومسؤولين ظلوا يصدعون رؤوسنا بأننا نعيش أزهى عصور الاستقرار، وطائفة من الخبراء الأمنيين المنتفخين جهلا يضعون إجاباتهم وتحليلاتهم على الأسئلة التي تثيرها الفواجع والمآسي، هؤلاء الخبراء المختالون جهلا تراهم كل يوم يفتون في كل شيء وأي شيء بدءا من دوافع الجريمة ومرورا بالمحرضين والمنفذين، فتراهم يتزاحمون على شاشات الفضائيات وتمتلئ الصفحات الأولى من الصحف بصورهم التي تنبأ المواطن المسكين أننا نعيش عصر الكوارث المستمرة والمتلاحقة، في الطرف الثاني ينصب الساسة الخيمة لمهرجان الإقصاء والتحريض، كل طرف يريد أن يعتبر الآخر مسؤولا عن المناخ الذي أوجد الكارثة، ويبلغ عنه ويضع اسمه في قوائم المتهمين ويطالب بإخراسه واستئصاله من العملية السياسية.
ولأننا نعيش في صولات "ظهر الحق وزهق الباطل".. فالمطلوب أن لا تثار أسئلة عن عدد القتلى في "بهرز"، ولماذا تعجز القوات الامنية عن حماية الابرياء، ومن سمح للإرهاب ان يقتحم بيوت الناس، لا جواب حتما. ماذا يعني مقتل مئة او مئتين شخصا وجرح العشرات وتهجير الالاف، ما دام النظام السياسي سالما، ومجلس النواب يغط في نوم عميق، والأمور تدار بالوكالة، بدءاً من المجاري وانتهاءً بالدفاع والمالية!
الطائرة الماليزية وصولة "بهرز"
[post-views]
نشر في: 26 مارس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ali modric
والله مقالاتك كلها روعة ومنصفة ووطنية بحق
ابو اثير
هذه السلطة توقع منها أكثر مما يزكم ألأنوف .. فهل يدري الشعب العراقي بأن حتى أرقام السيارات أخذت تحجز للمسوؤلين وأقارب المسؤولين ولا اقصد هنا ألأرقام العادية بل ألأرقام الصغيرة ألأعداد والأرقام التي تسمى بالسوبر فرقم سيارة 36 حجز لمسؤول مقرب لرئيس السلطة ي