انتهت القمة العربية الخامسة والعشرين، بـ"اعلان الكويت" الذي تميز بإدراج كل ما يخطر في بال المواطن القاطن في البلدان العربية، من عناوين كبيرة تقضّ مضجعه إشكالياتها المتنامية على مر السنين، ولا تجد لها حلاً خارج دائرة الشعارات والاهابات والوعد بكفالة ت
انتهت القمة العربية الخامسة والعشرين، بـ"اعلان الكويت" الذي تميز بإدراج كل ما يخطر في بال المواطن القاطن في البلدان العربية، من عناوين كبيرة تقضّ مضجعه إشكالياتها المتنامية على مر السنين، ولا تجد لها حلاً خارج دائرة الشعارات والاهابات والوعد بكفالة تحقيقها، رغم "التعقيدات والصعوبات" كما يجري إيرادها في بيانات وإعلانات القمم العربية.
وما يُحسب للقادة العرب حفاظهم على رباطة جأشهم، وظهورهم في كل الاحوال بمظهر المتفائل، مهما كان معروفاً حجم التقاطع والخلافات العربية - العربية التي تبلغ احياناً حد استعصاء "تبادل القبل" وفقاً للعادة العربية الأثيرة، على الخدين او فوق الانف، ناهيك عن تبادل التحية دون تَبَرّمٍ او مظهرٍ عابسٍ يفضح ما في السرائر، مما يؤدي إلى كشف مستورٍ لا يجوز الاعلان عنه من اسرار العلاقات بين الدول. والمستور " الممنوع " الافصاح عنه، قضية خلافية على مستوى القمة، كان يتعمد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي "فضّها" وكشف خباياها، "نزولاً" عند الحق الشرعي "للجماهير العربية" التي تنتظر من قادتها الصراحة والمكاشفة، كما كان يقول ويردد في كل قمة يحضرها.
وما دام القذافي، حاضراً باستذكار موقفه من المستور في القمم العربية، فيجدر المرور على بعض هذا المستور الذي لم يعد كذلك، او لم يكن كذلك أصلاً، اذ كانت فضائيات الزعامات العربية "المتشاتمة" في قممها، سرعان ما تسرّب فضائح المشادات الكلامية بالصوت والصورة، كلاً من وجهة نظره، بتبشيع موقف الآخر وإذلاله.
ومن بين هذا المستور، ان زمن التحضير لكل مؤتمر "يُستهلك" في "رأب الصدع " بين الزعماء، بدءاً من اجتماعات وزراء الخارجية العربية، وقبل ذلك من خلال الرسائل التي يوجهها زعيم الدولة المضيفة للقمة، ومستوى حامل "الدعوة". وتظل للباقة وكياسة الأمين العام لجامعة الدول العربية، وعلاقاته بالقادة ودولهم الدور الهام في عبور مرحلة التحضير الملائم لنجاح القمة.
لكن الاسرار الكبرى للاجتماعات التمهيدية، تدور حول إقرار جدول القمة، والصياغة النهائية للبيان الختامي او "الاعلان حسب رغبة زعيم الدولة المضيفة" وحاجته الى احدهما وفقا لأوضاعه الداخلية، واظهار شعبيته بين اقرانه من الزعماء العرب.
وقبل استذكار جانبٍ من آخر مؤتمر قمة سبق اندلاع "الانتفاضات المُجهَضَة" للربيع العربي، وغياب ابرز زعامات ما قبل ذلك، وأدوار كل منهم في إضفاء "لمسته" عليها، يقتضي التوقف عند مظهر بارز او اكثر مما يتكرر في القمم العربية، بقصدٍ او كعادةٍ تأصّلت بحكم التداول المعرفي السياسي.
المظهر البارز في كل القمم العربية، انها كانت تُعقد، وقد شاع التوتر في الاجواء العربية، بسبب خلاف بين دولتين او اكثر او بين محورين انبثقا نتيجة احتقانٍ عامٍ او تضارب في المصالح او على الحدود والبينيات التي تجمعهما مع شريكٍ او ولي أمرٍ عابر للقارات او المحيطات. وتنشغل الجامعة العربية و"القِمّة" المرتقبة بفك الاشتباك والبحث عن وسائل "لم الشمل " العربي، واطفاء فتيل الخلاف وتدارك تحوله الى فتنة "تطيح" بالتضامن العربي، وتأتي على ما تعقده الشعوب العربية من آمال على انعقاد "القِمّة" وما يتحقق فيها من مطامح وتطلعات قومية على المسارات المصيرية الاستراتيجية، وبشكل خاص على المسار الفلسطيني وحق شعب فلسطين في التحرر من الاحتلال الاسرائيلي واقامة دولته الوطنية المستقلة، وعلى مسار الصراع العربي - الاسرائيلي، الذي ظل ينكفئ ويضمر "عربياً" بعد صدور كل بلاغٍ من بلاغات القٍمم العربية!
وتبرز الى واجهة كل قمة جديدة، إشكالية تتعلق بالشعار المركزي للقمِة، او القضية المحورية المطلوب تناولها، وادراجها في صدارة البيان او اعلان القمة، دون ان يكون له رابطٌ او امتداد او تطوير لما جرى اعتماده في القمة السابقة، ان لم يكن معزولاً عن ترتيباته الاجرائية، وبهذا المعنى فان القمة لا شأن لها بما اتُخذ فيها او ما ترتب عليها من التزامات. ان كل قِمة تبدأ بحكم العادة والبروتوكول، بالاشادة بأفخم العبارات بزعيم القمة السابق وبدوره ودولته في خدمة المصالح العربية، وتعزيز التضامن فيما بينها، والذود عن قيم الامة ورِفعتها ومستقبلها الوضّاء! ويكون الحال والواقع ان العالم العربي والامة المبتلاة بأنظمتها وقادتها، قد دخلت في طيّات انكسارٍ جديد، لا احد يعرف الى اي متاهة جديدة ستفضي خلال الفترة الفاصلة بين قِمتين!
وقد لفت في القِمة التي انتهت بإعلان الكويت امس، ان رئيس القمة السابقة تميم حمد آل ثاني شيخ قطر، القى خطاباً مفوهاً، اشاد فيه بما يضيء سماء العالم العربي، دون ان يتطرق، الى ما لبّد هذه السماء من نهجٍ سياسي مغامر، متهورٍ ومتعالٍ لإمارته المتورمة "الجزيرة"، ومتعارض مع الإرادة العربية المهيمنة على القمة، ومتناقضٍ مع ارادة شعوب عربية في مصر وليبيا وتونس والعراق. ولم يكن خارج السياقات الطبيعية ان يُشيد رئيس القمة الجديد، أمير دولة الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح، بالنجاحات التي تحققت للعرب في ظل رئاسة الامير الشاب تميم، متناسياً ان احد ابرز مظاهر تلك النجاحات انعكس في سحب الامارات والمملكة العربية السعودية والبحرين سفراءها لدى قطر وتأثير ذلك على وحدة الدول الخليجية، ولا التطرق الى السياسة القطرية الداعمة للاخوان المسلمين ومنظمات مشتبه بضلوعها في عمليات الإرهاب والتكفير.
ليس في تقاليد القمم العربية، إدراج تقييم ما تم من انجازٍ لقراراتها، أو استعراضٍ للاخفاقات واسبابها. بل ان القمة وهي تُعقد، تنكفئ على ذاتها، وتعزل اعمالها عن كل ما سبق، الا اذا كان نجاحاً من النجاحات الباهرة، وهو ما لم يتحقق للأسف الشديد.
وتحرص كل قمة على إدراج فقرة لكل دولة وزعيم. وهي تشيد بانجازٍ لم يتعرف عليه الشعب المعني الا من خلال بيان القِمة، وتصريحات الوفد الرسمي والاعلامي المرافق. واذا أراد التاريخ انصاف الامة العربية باعتماد سجل القمم العربية وبياناتها، فسيخرج بانطباعٍ في غاية السلبية عن الشعوب والامم التي "لم تعترف بفضل قادتها" الذين حققوا كل الانجازات التي تضمنتها سجلات وبيانات واعلانات القِمم العربية!
أليس كافياً ان تَعرض القمة، للارهاب، فتُدينه وتطالب بتجفيف منابعه ومصادر تمويله وتعبئته وتسليحه، وتعدد باستنكار جرائمه وما يتسبب به من ويلات وكوارث على الدول والشعوب العربية، دون ان تلتفت الى ان بين قادتها أميراً يتباهى بدور إمارته بما يقدم من اشكال الدعم للارهاب التكفيري، فلا ينال على ذلك الا الشكر والتقييم في مفتتح القمة!؟
ومن بين الغياب المفجع عن القمة، الشعوب التي تنزف دماً كل يوم وتبحث في ظلمات التكفير عن امنها وعيشها وحريتها. وقد تداول الزعماء في كل أمر وأفاضوا في عكسها بلغة الفخامة العربية، دون ان يكون لهذا الغياب أثر او معنىً يستدرجهم لاتخاذ ما ينبغي، سوى الوعد بالمال والوفاء بالتعهدات المؤجلة.
تغيّب عن القِمة ايضاً، عدة رؤساء شاء القدر لهم وارادة شعوبهم ان لا يُكملوا مشوار الحكم الذي رسمته لهم مطامعهم، وتطلع اسرهم والأبناء لتوارث السلطة والتمتع بامتيازاتها المغرية التي ُتسيل لعاب محرومي الجاه وقادة الصدفة. لكن كان لحضور البعض منهم نكهة خاصة كانت تطري اجتماعات القادة وتضفي عليها شيئاً من الطرافة والخفة التي لا تُظهرها شاشات التلفزة.
من بين هؤلاء الرؤساء، معمر القذافي وعلي عبد الله صالح ومحمد حسني مبارك. كذلك الشيخ حمد آل ثاني امير قطر السابق الذي غيبته اقدارٌ لا علاقة لها بمصائر الامم والشعوب وإراداتها.
في آخر مؤتمر قمة بحضور هؤلاء القادة، جرى نقاش "منعش" حول اعادة النظر في هيكل الجامعة العربية لكي تنسجم مع الواقع والأماني العربية، فبادر القذافي الى تقديم تصور متكامل، يعاونه في ذلك علي عبد الله صالح. وجوهر التجديد الذي طرح تعلق بتغيير اسم جامعة الدول العربية ليصبح (اتحاد الدول العربية).
من بين النقاشات الملفتة، اعتراض امير قطر على إدراج فقرة في الهيكلية تنص على انتخاب البرلمان العربي. وقد كان الاعتراض في مكانه ، اذ قال: كيف نقبل انتخابات أيها الأخ القائد، ونفوس قطر لا تكاد تبلغ ثلاثمائة الف نسمة! وهذا يعني أننا لن نحصل حتى على اقل من مقعد واحد في البرلمان العربي!
أجابه القذافي: لا تقلق حمد فهناك غرفتان، واحدة للنواب المنتخبين، وأخرى لمجلس الشيوخ المعينين.
أجاب الشيخ حمد: على كلٍ لن نقبل الانتخاب، فما كان من الرئيس مبارك الا ان يجيب بانزعاج: الله ، هو الشيخ عاوز فرض دكتاتورية الاقلية على الاكثرية، يعني انت عاوز تكون قطر زي مصر..؟!
نسي الزعماء العرب في قمتين متتاليتين ما دار من صراع واختلاف وتباين حول تجديد جامعتهم وتغيير هيكليتها واسمها الجديد، كما لو ان ذلك لم يكن سوى لوثة "قومية" فرضها عليهم القذافي وعلي عبد الله صالح، انتهت بعد ان تواريا عن المشهد العربي، حالها حال كل القضايا الاخرى، سواء المصيرية منها او ما يفرضه مزاج القادة وأهواؤهم التي تعبث بمصير دولنا وشعوبنا..
لقد فشلت كل المحاولات التي سعت لتقويم لسان القادة العرب، وتصحيح لفظهم الخاطئ لمفردة "القمة" دون جدوى . وقد قيل ان الصحيح في لفظ اجتماع العرب بـ"القِمّة " بكسر القاف، وليس بالضمة "القُمة" لأنها تعني "القُمامة"، لكنهم للأسف استمرأوا الخطأ بالعدول عن الخطأ وظلت قاعات مؤتمرات القادة العرب تردد طوال اجتماعاتهم، "القُمة" بضم القاف.