في أيار 2009 كتبت مقالا بعنوان "الموازنة أزمة عجز أم أزمة سياسات"، كانت مخصصة لمناقشة أزمة إقرار الموازنة الاتحادية للعام 2009. يومها كانت المواجهة بين الحكومة ومريديها، أو لنقل السيد المالكي وحوارييه من أقطاب حزب الدعوة قد بدأت تتشكل بسبب رفض البنك المركزي إقراض الحكومة لتمويل العجز، وإصراره على إنفاذ قانونه الذي يحظر إقراض الحكومة. وقلت في نهاية المقال إن هذا التيار أمام خيارين لا ثالث لهما:
الأول: أن يعمد إلى الإطاحة برأس، أو رؤوس الجهات التي تصر على تطبيق قانون البنك المركزي الذي يحظر إقراض الحكومة، من خلال حملة شعبوية تتحدث عن تجاهل البنك مشاكل (الشعب العراقي) المالية والاقتصادية، ومن ثم تعيين أشخاص (واقعيين) يقبلون بغض الطرف عن أي خرق قانوني. أي الإطاحة باستقلالية البنك، وهي سياسة منهجية تم اعتمادها أكثر من مرة.
الثاني: أن تعمد الحكومة إلى تعديل قانون البنك بما يتيح لها الاعتماد على الاحتياطي العام بوصفه مجرد خزينة إضافية لها بناء على الثقافة الشائعة لدى النخب السياسية في العراق بأن القانون "مجرد سطر نكتبه ونمسحه" كما لخصها صدام حسين.
وقلنا حينها إن كلا الخيارين هو تكريس لغياب منطق الدولة في العراق.
كتبت كل ذلك في وقت لم يكن فيه السيد المالكي ومريدوه قد حصلوا على "تفويض مفتوح" من المحكمة الاتحادية بالهيمنة على "الهيئات المستقلة" (قرار المحكمة الاتحادية رقم 88 في 18/1/2011). وفي وقت لم يكن السيد المالكي قد فرض هيمنته المطلقة على القضاء العراقي، وفي وقت كان فيه السيد المالكي ومريدوه حريصين على بناء تحالفات إستراتيجية مع التحالف الكردستاني في مواجهة "الآخرين"، وفي وقت كانت مفردات "الشراكة" و "التوافق" سيدة الموقف. أما اليوم فقد تغير ذلك كله.
وبالعودة إلى أحجية البنك المركزي، فقد يبدو من الواضح أننا لسنا أمام قرار لمجلس الوزراء بتكليف السيد عبد الباسط تركي تولي منصب محافظ البنك المركزي وكالة، وإنما أمام قرار شخصي للسيد المالكي بعزل الشبيبي ،ودليلنا على ذلك أن قرارات مجلس الوزراء للجلسة رقم 45 في 10/16/ 2012 المنشورة على موقع رئاسة الوزراء قد خلت من أية إشارة إلى هذا التكليف المفترض. هذا فضلا عن أن مصدر هذا الخبر كان السيد علي الموسوي المستشار الإعلامي لرئيس وزراء وليس الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء، والأول لا صفة له في ما يتعلق بمجلس الوزراء! بل أكثر من ذلك فإن هذا القرار جاء مناقضا لما ورد في قرار آخر لمجلس الوزراء في الجلسة نفسها أقر فيه توصيات لجنة دراسة تذبذب سعر صرف الدينار العراقي، كما أخذ، وهذا الأهم، بمقترحات البنك المركزي بتشكيل "لجنة برئاسة ممثل عن ديوان الرقابة المالية وعضوية ممثلين عن وزارات الداخلية والمالية والتجارة والبنك المركزي العراقي والأمانة العامة لمجلس الوزراء تتولى تدقيق ومراجعة عمليات بيع العملة لغرض تحديد مواقع الخلل إن وجدت ونقاط الضعف والقوة ومدى الاستفادة من المبالغ المباعة وتناسبها مع كمية البضاعة والخدمات الداخلة واقتراح الإجراءات للحد من تسرب العملة لغير الغرض المذكور آنفاً". أي أن مجلس الوزراء في جلسة يوم 16/10/2012 لم يكن يمتلك أية معطيات عن وجود خلل في عملية بيع العملية، ومن ثم شكل لجنة لتدقيق ومراجعة عمليات بيع العملية لتحديد الخلل "إن وجد"!. فكيف إذاً يمكن حل هذا التناقض الصارخ؟
والسؤال الأهم هنا أيضا هو هل يملك مجلس الوزراء، أو السيد رئيس الوزراء، صلاحية إقالة، أو "سحب يد"! محافظ البنك المركزي أصلا؟ إن مراجعة قانون البنك المركزي العراقي (الأمر رقم 56 الصادر في آذار 2004) يكشف أن رئيس الوزراء لا يحق له القيام بإقالة محافظ البنك المركزي ونائبيه أو أي عضو من أعضاء مجلس إدارة البنك إلا في 9 حالات فقط، 4 من هذه الحالات هي صدور أحكام قضائية بالإدانة (المادة 14/2/أ، ب، ج، هـ)، وفي حالة سحب الأهلية أو إيقاف ممارسة المهنة (المادة 14/2/د)، وفي حالة المخالفة الصريحة لشروط التعيين في المنصب (المادة 14/2/و، ز، ح)، وأخيرا في حالة التغيب عن حضور اجتماعات المجلس (المادة 14/2/ط). فضلا عن أن القانون نفسه يعطي في المادة 23 منه "حصانة قانونية" لأعضاء مجلس إدارة البنك من التعرض للمساءلة القانونية " ﻋﻦ أﻳﺔ أﺿﺮار وﻗﻌﺖ ﺑﺴﺒﺐ أي إهمال أو إﺟﺮاء ﺻﺪر ﻣﻨﻪ أﺛﻨﺎء ﺗﺄدﻳﺘﻪ ﻤﻬﺎﻣﻪ أو ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺗﺄدﻳﺘﻪ اﻠﻤﻬﺎم اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ ﻧﻄﺎق وﻇﻴﻔﺘﻪ واﻟﺘﺰاﻣﺎﺗﻪ اﻟﻤﺤﺪدة ﻟﻪ ﺑﻤﻘﺘﻀﻰ هﺬا اﻟﻘﺎﻧﻮن".
والمعطى الثالث هو إصدار المشرف على المركز الإعلامي للسلطة القضائية عبد الستار البيرقدار يوم الخميس 18/10/2012 إيضاحا بين فيه أن "قضية السيد الشبيبي معروضة حاليا أمام هيئة قضائية تابعة لمحكمة النزاهة في الرصافة". ثم عاد المشرف نفسه ليصرح يوم الجمعة 19/10/2012 أن "السلطات العراقية [!] أصدرت أوامر اعتقال [!] بحق محافظ البنك المركزي العراقي السابق [!] سنان الشبيبي وبعض المسؤولين الآخرين" (السومرية نيوز 19/10/2012). طبعا لن نسأل لماذا استخدام مصطلح "السلطات العراقية" وليس القضاء العراقي، ولماذا مفردة "اعتقال" وليس "إلقاء قبض"، ولماذا أيضا استخدام مفردة "السابق" الواردة في التصريح والرجل لم يقل بعد؟ سنحاول هنا اكتشاف كيف تحول الأمر من مجرد لجان تحقيقية إلى محكمة نزاهة ثم قرار بالاعتقال!!! فكما بينا في ما سبق، لم تقدم لجنة دراسة تذبذب أسعار صرف الدينار العراقي أية أدلة على وجود "خلل" في عمل البنك المركزي العراقي. أما اللجنة الثانية التحقيقية التي شكلها مجلس النواب العراقي في آب 2012 فإنها لم تقدم تقريرها إلى المجلس لمناقشته كما تقرر ذلك المادة 85 من النظام الداخلي لمجلس النواب "لاتخاذ ما يراه مناسبا". وحيث أن اللجنة لم تعرض تقريرها وتوصياتها على المجلس مجتمعا، فان كل ما تم إعلانه عن نتائج هذا التقرير في الإعلام يعد مجرد آراء شخصية لعضو اللجنة لا يعتد به من دون إقرار المجلس.
والأحجية التي تبرز هنا هي كيف قفزت محكمة النزاهة إلى الموضوع، ومن أحال إليها القضية؟ فهل نحن أمام ملف أحيل من هيئة النزاهة، المسؤولة الحصرية بموجب قانونها عن التحقيق في قضايا الفساد، إلى المحكمة الاتحادية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما سر هذه السرعة الغريبة في إنجاز هذا الملف، ونحن نعرف أن السيد رئيس مجلس النواب قد التقى رئيس هيئة النزاهة في 11/10/2012 وحثه فيه على "أن تحافظ هيئة النزاهة على شفافية وانضباطية التحقيق بملف البنك المركزي وأن يكون هناك تنسيق عالٍ مع الجهات القضائية المختصة لإنجاز العمل بدقة وضرورة عدم تسريب المعلومات المترتبة على التحقيق قبل الانتهاء من العمل". فكيف يمكن الحديث عن انتهاء ملف فساد من دون التحقيق مع المتهمين المفترضين في هذا الفساد قبل إحالته إلى القضاء؟
ثم ما مصدر تصريح النائب هيثم الجبوري في 14/10/2012 حول صدور مذكرات اعتقال ومنع سفر بحق محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي ومسؤولين في البنك ،ويلاحظ التطابق بين تصريح الجبوري وتصريح البيرقدار!
وكيف يمكن لنا أن نفسر ما قاله النائب عن القائمة العراقية نبيل حربو من أن "رئاسة مجلس النواب تسلمت كتابا بأمر ديواني من مجلس الوزراء يطالبها بإحالة محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي وعدد من الموظفين في البنك إلى القضاء وفق المادة 340 " الذي يثير علامة استفهام حقيقية وجدية حول مبدأ الفصل بين السلطات، فلو كان القرار قضائيا فليس للسلطة التشريعية أي دور في هذا الأمر!
كما قدمنا في البداية لسنا هنا أمام حالة معزولة تتعلق بتذبذب أسعار العملة، أو مزاد بيع العملة، وإنما أمام سياق كامل من محاولات الهيمنة على البنك المركزي العراقي، الذي بقي بعيدا نسبيا مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عن سيطرة السيد المالكي بعد أن استطاع الأخير الهيمنة على الهيئات المستقلة (هيئة النزاهة، هيئة الإعلام والاتصالات) ،عملياً عبر إجراءات العزل والتعيين، وقانونياً من خلال قرارات المحكمة الاتحادية.
ومراجعة سريعة لهذا السياق فقط للعام 2012 تكشف زيادة حدة هذا الضغط باتجاه "احتواء" البنك المركزي، فقد أرسلت الأمانة العامة لمجلس الوزراء في 15/3/2012 رسالة إلى محافظ البنك المركزي تطالبه فيها بـ " تقديم السياسة النقدية للبنك المركزي إلى مجلس الوزراء لإطلاع المجلس عليها وإقرارها وعدم اعتماد سياسات من دون إقرارها من مجلس الوزراء مستقبلا" في مخالفة صريحة لقانون البنك المركزي النافذ. وقد دفع هذا الضغط بالسيد رئيس مجلس النواب السيد أسامة النجيفي إلى الحديث إلى محافظ البنك المركزي أكثر من مرة للتأكيد على استقلالية البنك. بالإضافة إلى أن قضية الهيمنة على البنك المركزي كانت جزءا من مفردات الصراع بين رئيس إقليم كردستان ورئيس الوزراء الاتحادي.
أخيراً هل لي أن أسأل سؤالا غير بريء: هل يكون احتياطي البنك المركزي البالغ 67 مليار دولار تعويضا للسيد المالكي في حالة العجز عن تمرير قانون البنى التحتية والدفع بالآجل، ونكون أمام سندات خزينة بمبلغ 37 مليار دولار لهذا الغرض؟
مرة أخرى ليس ثمة جهة قادرة على إيقاف هذا الانتهاك الصارخ للدستور والقانون، و ومرة أخرى يتم التضحية بمنطق الدولة. فهل ثمة من يقول لي إلى أين نحن سائرون؟