-1-في جو من المعالجة ( التراجيدية الجديدة ) حاول المخرجون في الغالب , تقويض الثنائية العدائية بين حقوق وواجبات الذكر والأنثى على مستوى الحضور والغياب , أو كتابة النص الدرامي , أو الاختلاف الإخراجي في معالجة العرض المسرحي الذي له ضروراته الخاصة
-1-
في جو من المعالجة ( التراجيدية الجديدة ) حاول المخرجون في الغالب , تقويض الثنائية العدائية بين حقوق وواجبات الذكر والأنثى على مستوى الحضور والغياب , أو كتابة النص الدرامي , أو الاختلاف الإخراجي في معالجة العرض المسرحي الذي له ضروراته الخاصة . حين " ينطق " الممثل بالحوار على وفق تنغيمات , من شأنها ان تقود إلى منعطفات دلالية قد تكون مغايرة في العرض عنها في النص .فمازال هناك من يعتقد بأن ( المعنى ) يوجد جاهزاً سلفا وبذلك يخالف المنطق الفني وكأن المخرج ملزم بتطبيق النص حرفياً , في عمله الإخراجي , أو يبقى تابعاً للنص , وليس خالقاً لعالم جمالي يتميز بظواهريته البصرية – السمعية , ويتشكل نسقه الحركي , بابتكار , وامتياز في الكشف والخلق الإبداعي الفني , حينها يتحول ( الحوار ) بمدلوله المتعالي , على كتابة المفردة اللغوية الثابتة , وهو يخوض في ابتكار جماليته المنفردة لتشكيل عناصر العرض .
كما تعامل المخرجون – أيضا – مع مرجعيات تراثية , لها حقول دلالية , تجمع الموروث , والفولكلور وأنساق لغوية تحيل إلى مراحل تاريخية , في نظامها العلامي ومعجمها , وكفاءة المتلقي , في ترهين المعنى , والمغزى للحوار , وحقوله الدلالية المترادفة والمتضادة بين طرفي الصراع في العرض , قوى التخلف , وقوى التقدم .
ضمن المعالجة السياقية , وجدنا رؤى تاريخية توحي بتأثيرات أزمنة أو مراحل سابقة مرّ بها الشعب العراقي في بيئة متشظية بأفكارها الأيديولوجية وصلت ببعض العروض إلى التشبث بما يشبه الوثيقة الواقعية , والقريبة من منهجية العلم , يتحكم البعد الموضوعي الخارجي , باتجاه العرض , وتحديد أهدافه , لتبرز لدينا – أيضا – قضايا مجتمعية تخص القيم , والأعراف , ومبادئ السلوك الأخلاقي ( القيمي ) حيث بات المضمون مكرساً لملامحه الواضحة , ويعلن العرض بلغة شعارية , قناعاته الفكرية الصارخة .
وأكدت عروض أخرى على جوانب ( نفسية ) مريضة أو منحرفة وتطرقت أخرى بتقديم حلول ومعالجات سريالية وتدور في محيط خرافي لا معقول تجافي المنطق الحياتي المعروف للناس , وازدهرت بعض الصياغات في انزياحات أسلوبية اتخذت من شكلانية العرض وأسلوبيته وعمق خياله الفني هدفاً إبداعياً متفرداً لغاية جمالية تخص قوانين العرض , منحرفة عن ثوابت النسق اليومي , سواء على مستوى ( الشكل ) في إنتاج المعنى , أو ضمن تكوين هندسي لتفجر معاني مختلفة عند المتلقين , تقترن بتحولات لغة العرض في تبايناتها الداخلية واختلافاتها المتنامية , وكذلك في المواجهة لمعايير خارجية مهما كانت أسبابها وحذفها من المعالجة لأنها غريبة عن بؤرة العرض , الأمر الذي جعل من ( المتفرج ) يتعامل مع ( فجوات ) مختلفة ،وبذلك اختلفت طرائق التلقي من حيث توتر طاقتها عند هذا المتفرج أو ذاك , الذي يقوم بعملية خلق جديدة , في تفاعله مع العرض وإنتاجه لدلالات جديدة , كانت الأشكال الإخراجية حافلة برموزها المعقدة, المنشغلة بإعادة تصنيف الأشياء في البناء التركيبي للعرض فتقوم المرأة بدور الرجل أو المقبرة بدور الحياة , أو الحزن بديلاً عن الفرح في هذا المناخ الكابوسي , الذي يطبق بخناقة على الجميع ولكنه يخرج عن الإيقاع اليومي الرتيب , لفصل ( البطل ) عن التماهي مع حياة واقعية ما , وإكراهاتها البغيضة , غيّر المعالجة جمالياً , حتى أقنعتنا بعض العروض بأن " للكلمة " حضورا شخصيا لها , ولها كينونتها , وحقيقتها الخاصة في الوجود , وقطعتها بأسلوب مسرح اللامعقول عن العلاقة مع الخارج , حيث اتضح لنا تماماً : ان لا شيء خارج الكلمات , فالكلمات هي الحرية والخارج عنها هو السجن .
تخيل المخرجون صورة الآخر على وفق ما رأوه هم , وترك كل مخرج لجمهوره , الكيفية التخيلية التي يرونه بها , لذلك لا تجربة جمالية بدون جمهور , على رأي ( بيتر بروك ) ونضيف نحن لا جمال خارج العرض .
في عرض (أسرار الفراش) للمخرج : جفات – الرصافة
عازف " الجلو " بزيه الأبيض يتحوطنه ثلاث نسوة بملابس سوداء وشال أحمر , ويدور أربعة من الجنود , وطبيب , وطبيبة , النسوة تطرز إحداهن على شال ابيض ممتد من اعلى المسرح من فوق ( بارتيشنات ) الشفافة المنزلقة , والثانية تدخن السيجارة والثالثة كأنها عارضة أزياء يجري اغتصابها في معتقل سري في زمن دكتاتوري شمولي , ليتحول المشهد برمته إلى هلع , ولطم , ودوران عاصف من الحزن بلا نهاية منفرجة , ولا ضوء في ثقل العتمة , في دوائر جهنمية من الاضطهاد البوليسي , تتصاعد الوتيرة التراجيدية , حين يقدمن على شنق أنفسهن بشالات متدلية من الأعلى , يحجب الجند جثثهن من الجمهور وهم يؤدون التحية للجلاد الأكبر .
حاز العرض أناقة لونية واضحة, لولا بعض اللمسات الأنثروبولوجية التي أثقلت فوتوغرافيتها النسمة الحرة , في صياغة العرض .
مأساة محرّك الدمى / للمخرج / صفاء رؤوف مرزة – تأليف : محمد أبو العباس
يظهر المخرج هياكل ، " بارتشنات" على شكل دمى ، ومجموعة مرقطة بالأبيض والأسود، " الفسفورية اللون" لكن هذا التأثير خفتَ بسبب تقنية الإضاءة ، جاء المخرج التشكيلي ، بهدف فتح حوار أخلاقي وجمالي مع الجمهور، في الضوء وفي الظلام ، فدور الفنان – حسب المخرج – هو رهن المستقبل والانفتاح على أجيال قادمة، تخترق الظلام الذي تعثر فيه الآباء، والفنان يقدم لحظات جمالية، حالمة، مهما تلفعت المرأة بالسواد ، وتراجيديا الظلام الموحشة.
أراد العرض تفحص قدراته التجريبية في محاولة بريئة ومخلصة من أجل أهداف إنسانية عامة .
وباء الزقشر , تأليف وإخراج نصيف فلك – الرصافة الأولى
يقتحم العرض – بدراية محسوبة , وجرأة فنية استثنائية نادرة , ذلك المحيط الهادر من تراجيديا الموت , والدمار , والفناء الأحمق , الذي يسيء لكرامة الإنسانية عرض يتألق بممثليه وممثلاته , بغبطة الجمال , والتهكم ( الجروتسكي ) الذي يقلب من طريق العبث , الموازين الحياتية برمتها , ويتحول الأعلى إلى الأسفل , والأسفل إلى الأعلى فيختض ( بالموت ) وتوظف الحلبات كلها , حتى بين المتصارعين في حلبة الملاكمة , لنشهد ( فقيهاً ) يلاكم ( خصمه ) في العلن , أمام الجماهير المحتشدة , ويطلق فتاوى تحريمية تقوّض الجبال الرواسي , لكننا نرى ( أجندة ) سرية تجمعها وراء كواليس ( العبادة ) !
ثم تخترق (القاعة ) من قبل امرأة , ورجل يحملان ( مهد ) طفل ليبيعا ( الغيرة والشرف ) في محيط مكفهر من الموت , والقتل والمقابر , في نشيد ( أم دانة ) الذي وظف أعلى لحظات السخرية , من خنوع المجموعة التي أسرفت في غباواتها , وسكونها المخل بالشرف عن الجريمة ونحر الوطن , حتى تحولت قصيدة السياب من احتفائها بالوطن , إلى مرثاة للوطن " الذبيح " ولم يكن الاحتفاء بجنازة الأب المتوفى رقصاً وغناء , وتمنيات الجميع , ان يسهل الله على الجميع موت آبائهم , ونسف عوائلهم , وتدمير مستقبلهم , بالتهاني والزغاريد , وضرب الدفوف , وقرع الطبول ! ، لم يكن كل هذا إلا قلباً للمنطق السائد والتقاليد المكرسة للفرح أو الحزن .
ويغتم الجميع , حين تقع على رؤوسهم وقع الكارثة , ولادة طفل , وتعليل هذا الحزن التراجيدي الوبيل هو : ان الطفل جاء للدنيا , وهو ذكر , وجميل , ومعافى !
ياللهول ! هنا يتحرك الموتى في قبورهم , وتعلن الأرض النشور , وتشيط غضباً , أكداس النفايات , ويحمل الجمع مسدسات ومانيكان رجل , ومهود أطفال , وهرج , واصطخاب في جو فولكلوري , كما يزف فيه العرسان إلى بيوت المقابر الزوجية السعيدة !
ثم تضاء المصابيح الحمراء وهم يرتدون " السواد " وعند هذا الختام تتكدس وتتكاثر في جانب " يسار المسرح "
العرض كان مثالاً للتراجيكومديا , وطنية بامتياز أراد المخرج بكلمته , ان يقاوم الشر , بوردة المسرح , ليوقظ ضمير من يموت وهو لا يدري ! الضمير اليوم – كما يقول – في غرفة الإنعاش , وهو يقاوم عمالقة الفتك والفساد .