TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ساسة الجاحظ عرب وعجم

ساسة الجاحظ عرب وعجم

نشر في: 31 مارس, 2014: 09:01 م

افتح البريد لتفقد تقارير الزملاء، فأجد اهالي ابو غريب يتحدثون عن هلع اطفالهم، من دوي المدافع، الذي بات يسمع على بوابات بغداد، نتيجة الاشتباكات المسلحة المتواصلة منذ اسبوع في بضع قرى، تفصل الحدود الادارية للعاصمة، عن الفلوجة. لاتذكر لحظتها، ان حرب الانبار لم تعثر على نهاية مناسبة لمجرياتها، بعد دخولها الشهر الرابع، كما لم تجد تفسيراً مقنعاً لبدايتها.
اتصفح سجالات العراقيين على الانترنت، فتصد نفسي عن سماع الاخطاء ذاتها، في وصف المشاكل، وحين ألتمس العذر لهواة النقاش، لا اجد تفسيراً للارتجال والتسرع الذي تتسم به تصريحات من ظل يشتغل في السياسة لأعوام، دون ان يستوعب جسامة مسؤوليته، وحساسية عباراته، وركام الخطل الذي يغطس فيه هو وحزبه.
اتصفح كتبنا القديمة، لأشبع الفضول حول النهج الذي كان ينظم افكار الاولين، في مباحث "الامامة والسياسة" فيفاجئني اقتباس شهير من حديث الجاحظ، لا امل من تكرار قراءته، اذ يملي على النساخ في كتابه "البيان والتبيين" مقارنة بين خطباء الفرس، وخطباء العرب. يقول:
"كلام الفرس (ناتج) عن طول فكرة، واجتهاد وخلوة، ومشاورة ومعاونة، وطول دراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الاول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم".
ثم يوضح مقارناً، ان كلام العرب "بديهة وارتجال، فليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا اجالة فكرة ولا استعانة، فتأتيه المعاني ارسالاً وتنثال عليه الالفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه احد من ولده".
وبين قدرة الامم الراسخة كالفرس وقدامى البابليين والمصريين، والحضارات القوية اليوم، على مراكمة الخبرة و"إجالة النظر" قبل اصدار حكم والتفوه برأي، لم يتح لاغلب ساستنا اي "اجتهاد وخلوة" بل غرقوا وأغرقونا في "الانثيال والارتجال" وتاه السياسي وورط معه الجموع في تيه داخل غابة الاسلحة التي خلت من الحكمة اليوم، فصارت عاجزة عن تفسير ما حصل، او التنبؤ بما سيؤول اليه الحال.
وقد كانت المقارنة بين الامم القديمة، والعرب، موضوعاً رائجاً يثير شهية المفكرين الاوائل، فكتب ابن خلدون في المقدمة ان "زحف الاعاجم في الحرب، اوثق وأشد". فالفارس العربي كان يخطط ل"صولة سريعة للكر والفر"، اما الفرس (وقبلهم الاشوريون واضعو اسس الحروب القديمة) فيقفون في صفوف متراصة ويتقدمون عاضين على النواجذ، محققين النصر البطيء ولكن الراسخ.
الخطيب الفارسي والمحارب الاعجمي ومن سار على نهج التطور من حضارات اليوم، تجمعهما صفة "الصبر وإجالة النظر والحذر من الارتجال"، وهي صفة تلازم جهود الامم التي تنجح في مراكمة المساعي لبناء صروح راسخة تصمد امام تقلبات الدهر وتحولات الزمان. وهي صفات غابت اليوم عن "خطبائنا" المتصدين لتوجيه الامة، ومحاربينا الذين تشتت داعش جموعهم، وتسخر منهم ومنا، فلا يبقى في ايدينا سوى استهلاك ذخيرة المدافع، وتأبين الضحايا مدنيين وعسكرين، والتعتيم على نتائج لا يفخر بها موالٍ او معارض.
واذا اتيح للجاحظ وابن خلدون ان يطلعوا على حالنا اليوم، لأعادوا اساس القسمة في مقارناتهم، اذ سيطلعون على عرب تطورت خبرتهم، بل اشتروا عقول الاعاجم والافرنجة وكفاءات الشرق قبل العرب، وخففوا من سوء الحال، ونجحوا في ميادين ومجالات مهمة، مقابل عرب مثلنا، عالقين في نمط القرن الرابع الهجري الذي سجله المفكرون الاوائل، ومحبوسين في طريق مسدود ب"ساسة الزرق ورق".
وكما يمتدح الجاحظ قدرة الاعاجم على "المشاورة والمعاونة، وحكاية الثاني علم الاول، وزيادة الثالث في علم الثاني" فإن ساسة زمننا السيء هذا، يتشاورون ويتعاونون في "مسابقة للحمق والتسرع"، ف"يحكي الثاني حمق الاول، ويزيد الثالث في نقص حكمة الثاني"، ويبذلون المال والدم لخسارة مفاوض مثل رافع العيساوي، وكسب شريك من طراز مشعان، فيبدأون حرباً مرتجلة نحتار جميعاً في اختيار نهاية مناسبة لها، مستكملين سقوطنا المخزي الذي بدأ قبل عقود، على يد من "تنثال عليه الالفاظ انثيالاً، ثم لا يقيد الرأي على نفسه، ولا يدرسه احد من ولده

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 5

  1. ياسين عبد الحافظ

    ولهذا السبب ولغيره اظطرت اكبر قوة عسكرية الى عبور الاطلسى لتغير وتقلع نظام صدىم,ولولاها لكم ان تتصوروا ما كان صدام فاعلا فى اجواء الربيع العربى,

  2. فادي أنس

    سرمد الطائي أني والله أحسدك وأتمنى أن يكون لي نصيب من أرسال معانيك وأنثيال ألفاظك.

  3. Ali AlMaqhoor

    سرمد الطائي عملاق في زمن كثر فيه الاقزام والمطبلين والمهرجين للمالكي وحكومته من امثال وجيه عباس وفارس الغضبان ومؤيد اللامي وهذه القاذورات

  4. مهند كاظم

    الاخوه الزوار الكرام الاخ سرمد الطائي المحترم تحيه طيبه/فيما يخص موضوع حرب الانبار بالحقيقه هي كارثه انسانيه بجميع المقاييس يدفع ضريبتها يوميا سكان محافظه الانبار ليس لديهم ذنب الى كونهم من عراقيين اصلاء رفضو استباحت حرمه منازلهم من قبل قوات الحاكم بامره

  5. وحشي

    الاستاذ سرمد لايثيرك اسمي وحشي فوالله كنت فاهما ومثقفا بسيطا ومدركا للامور السياسية والثقافية واطلعت على ثقافات الامم ولكن صدمة من يحكم العراق الان وكيف سرقوا فرحة واحلام الشعب الطيب المسكين قلبتني الى وحشي وكفرت بكل القييم التي تعلمتها اذ كيف ينقلب هذا ا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram