TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > من هو سلطان توفيق الحكيم الحائر

من هو سلطان توفيق الحكيم الحائر

نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 02:26 م

عبد الجبار داوود البصري مسرحية السلطان الحائر هي من إحدى روائع توفيق الحكيم بلا أدنى شك، فهي تجمع بين قوة النص اللغوية، حداثة الفكرة، وجمال الغاية، وهي مسرحية كوميدية ساخرة لكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فهذه المسرحية بفصولها الثلاثة تتحدث بمجملها عن صراع السلطة المطلقة في يد الحاكم،
 وقوة القانون، أو بمعنى آخر، هي جواب لتساؤل قديم قدم وجود الإنسان على وجه الأرض، ألا وهو: هل نلجأ إلى القوة أو المبدأ لحل قضايانا المستعصية؟ ونجد أن توفيق الحكيم الذي كتب هذه المسرحية في خريف 1959 في مدينة باريس، كان يتفاعل مع ما مر به العالم في العقد الأخير من إستخدام دولة عظمى كالولايات المتحدة القوة النووية لأنهاء الحرب العالمية الثانية، عوضا إلى الإحتكام بقوانين مجلس الأمن والأمم المتحدة التي تمثل ” المبدأ ” في الصراع السياسي الدولي. بالعودة إلى المسرحية، نجد أن الحكيم إستهلها بمشهد كوميدي ساخر، لرجل على وشك أن يلقى حتفه على يد جلاده، لسبب لا يستطيع المحكوم عليه التصريح به لتوعد جلاده بإنزال السيف على رقبته لو باح بسبب عقوبته. ونبقى طوال الفصل الأول من المسرحية نتابع بأعين مترقبة معرفة سبب الحكم على هذا العجوز، ونقرأ بحبور ذلك الحوار الساخر المضحك بين العجوز ” النخاس” والجلاد الذي ينتظر على أحر من الجمر أذان الفجر لينفذ الحكم. والقاريء المتمعن قد يرى نوعا من السخرية في تواجد هاتين الشخصيتين في نفس المكان، فالنخاس تكمن وضيفته في بيع البشر كعبيد، والجلاد إنما ينفذ أحكام القانون دون النظر إلى واقع القضية أو حتى معرفة ما إذا كان المحكوم عليه قد لقي محاكمة عادلة. ولو قرأنا بتمعن أكثر، فنحن نستطيع ما يحاول الحكيم أن يوصل إلينا برمزية الشخصيات، فهذا النخاس إنما يمثل ” العبودية ” وهذا الجلاد إنما يمثل يد ” القانون “، كما أن المؤذن في المسرحية هو ” الدين ” والعاهرة التي تظهر في ذات الفصل هي ” الفساد الأخلاقي “. وإذا ما وضعنا هذه الشخصيات في مكانها الصحيح فإننا نستطيع فهم ما يحاول الحكيم قوله، فالنخاس كان من الممكن أن يعدم فعلا لو أن المؤذن رفع الأذان في وقته، إلا أن المؤذن إتبع أهواءه ودخل مع العاهرة الى بيتها، تاركا الأذان دون أن يرفع، وبالتالي لم يستطع الجلاد من تنفيذ الحكم. وبإسقاط هذا المشهد على الواقع، فإننا نجد أن العبودية كان من الممكن أن تنتهي بيد القانون لو كان الدين ينفذ بحذافيره، مما سيضمن بلا شك للقانون القدرة على تنفيذ أحكامه وإنهاء العبودية تماما من على وجه الأرض. ولا يخفى على عاقل أن العبودية، بالرغم من إنقضاء عهد الرق، موجودة بصورة خفية، إما بصورة إجتماعية أو بصورة سياسية في عالمنا المعاصر، فالبشرية مازالت تعاني من العبودية السياسية بتبعية الدول الفقيرة للدول الغنية وعملها على رفاهية الإنسان الغني على حساب معاناة الشعوب الفقيرة وحرمانها من أبسط الحقوق المدنية المتمثلة في المأكل والملبس. وفي نظرة سريعة على نص المسرحية، نستطيع معرفة تهمة النخاس، الذي يتضح لاحقا في الفصل الثاني من الرواية وفي محاكمته أمام السلطان، أنه صرح في سوق المدينة على أن سلطان المدينة المملوكي إنما هو عبد باعه للسلطان السابق، وأن السلطان الحالي لم يعتق، وبالتالي فإن القانون لا يسمح له بالبقاء في منصبه لأنه ملك لبيت المال، أي أنه ” شيء ” من الأشياء، لا شخص ذا إدراك وإراده. وبعد أن يتشرب السلطان الصدمه، ويعترف الوزير بخطئه، يبدأ الصراع الفعلي في عمل توفيق الحكيم المسرحي، فيتضح لنا أن الصراع إنما بين قوتين لا ثالث لهما، قوة السيف ، وقوة القانون. وأما قوة السيف فقد كانت متمثلة في الوزير الذي كان يلح على السلطان بإعدام النخاس لتكف ألسنة الشعب عن الخوض في إشاعة عبودية السلطان وعدم أحقيته بالحكم، وأما القانون فقد كان متمثلا في القاضي الذي واجه السلطان وألح أنه لابد من تطبيق القانون بالرغم من كل شيء. بعد ان هدأة ثورة السلطان واحتكامه للعقل، يقرر التمسك بالقانون، وعرض نفسه في مزاد علني ليباع ويعتق أمام الشعب بأسره. وتقبع الجملة المفتاحية التي تستطيع ترجيح كفة القانون لدى السلطان في مقولة القاضي ” .. إني معترف بما للسيف من قوة أكيدة، ومن فعل سريع وأثر حاسم، ولكن السيف يُعطي الحق للأقوى، ومن يدري غداً من يكون الأقوى؟ فقد يبرز من الأقوياء من ترجح كفته عليك! أما القانون فهو يحمي حقوقك من كل عدوان، لأنه لا يعترف بالأقوى .. إنه يعترف بالأحق”. ويمكننا نفسير مقولة القاضي على أنها توضيح لمبدأ أن القوي هو بلا شك من يحتمي بالقانون والحق، وليس هو من يحتمي بالسيف، وأن الخضوع للعدالة مجد ورفعة وقوة، ونكتشف أن حاجات المجتمع إلى سيادة القانون ـ على النحو الصحيح تماما ـ أشد من حاجتها إلى أي شيء آخر، ويظهر لنا بوضوح أن دور السلطان في حماية القانون هو دور جوهري وأصيل، بل هو الدور الأول، إذا فقده أو حاد عنه فقد كل شيء. كما نستطيع أن ندرك أيضا أن حاجة الأمة إلى القاضي الأمين العادل تُساوي تماماً حاجتها إلى الج

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram