إذا صنّفنا كتابة اليوميات من ضمن الأجناس الأدبية السردية ( وهي كذلك، في رأيي، على أن تتوافر على شروط فنية معينة ) فإنها تكون أكثرها بُعداً عن التخييل. وأجمل ما في أدب اليوميات تلقائيته لأنه ينتج عن فعل ووازع عفويين، ويتشكل في جمل واضحة، مباشرة، مفككة
إذا صنّفنا كتابة اليوميات من ضمن الأجناس الأدبية السردية ( وهي كذلك، في رأيي، على أن تتوافر على شروط فنية معينة ) فإنها تكون أكثرها بُعداً عن التخييل. وأجمل ما في أدب اليوميات تلقائيته لأنه ينتج عن فعل ووازع عفويين، ويتشكل في جمل واضحة، مباشرة، مفككة أحياناً لاسيما حين لا يتوقع الكاتب نشر ما يكتب، ولا يتهيب من قارئ يترصده، أو ناقد يحصي عليه هفواته.
مثل هذه الكتابة تكون غالباً حارة طازجة، فيها الكثير من الحميمية والصدق لأنها تسجل، كما نتوقع،، وقائع حاصلة وانطباعات حقيقية. وحين تقع في يد قارئ ما ( حتى بعد مدة طويلة ) فإن هذا القارئ يشعر بقربه مما يتحدث عنه الكاتب؛ أو يعايش ما يقوله الكاتب. فكتابة اليوميات تأخذ منحى المناجاة الذاتية تارة، أو تفترض قارئاً متفهماً متعاطفاً تارة أخرى.
قد يكون دافع كتابة اليوميات هو الانهمام بالذات، أي تأكيد الطابع الأناني للمرء عبر جعله أناه مركزاً للعالم. وقد تغدو مثل هذه الكتابة أمراً أشبه ما يكون بالتحقيق الجنائي. وهذه المرة لفك بعض غوامض الوجود وملابساته، أو من أجل أن يفهم الإنسان نفسه أو الآخرين أو محيطه.. أكتب لأفهم في أثناء الكتابة؛ علّني أفهم. ولست أكتب لأنني كنت أفهم ( قبل الشروع بالكتابة ).. تماماً حسب وجهة نظر آلان روب غرييه، وهو يلخّص عملية وآلية كتابة الرواية الجديدة.
تكتب يومياتك لأنك في فضاء آخر، في غير وضعك المألوف، أو خارج بيتك أو بيئتك الصغيرة؛ في مواجهة الاستثنائي والمجهول والمدهش والغريب.
يكتب الثوري اللابد في الجبال يومياته. وكذلك تفعل العاشقة المسهدة في ليل الأسى. ومثلهما، ينغمس بهذا الطقس المسافر المفتون برؤية البلدان الغريبة، والرحّالة الذي يعبر مفازات الصحارى، والأنثربولوجي وهو يعايش قبيلة بدائية في غابات الأمازون، وعالم الآثار وهو يتوقع مفاجآت سارة في عملية تنقيبه عمّا خلّف الأقدمون. والحال عينه مع المستكشف الجغرافي، متسلق الجبال، الدبلوماسي الذي يقوم بزيارات مكوكية لحل قضية سياسية مستعصية، المراسلة الصحافية في منطقة ساخنة، المعلِّمة في قرية نائية، الطبيبة في مكان خطر ينعدم فيه الأمن، أو بلاد موبوءة، المنفي رغماً عنه، السجين، المعتقل ( إن وجد الأقلام والأوراق ). الجندي في حرب ضروس، المهندس المسؤول عن تشييد برج عالٍ في ظروف مناخية غير ميسّرة، المخرج الذي يواجه صعوبات في إخراج فيلمه، الكاتب الذي تعترضه مشكلات خلال محاولته إنهاء كتابه، الخ، الخ..
توفِّر كتابة اليوميات مادة أرشيفية غنية للدارسين في حقول معرفية متعددة ( التاريخ، السياسة، علم الاجتماع، الأدب، الفن، الأنثربولوجيا، علم النفس، الخ ) لأنها تلقي نظرة فاحصة على صورة الحدث الشخصي الجاري على خلفية الحدث التاريخي العام. وتفيد أحياناً في التحقيقات الجنائية أو الإدارية. وتصبح مادة أولية ممتازة لكتابة السيرة. وحين يكتب روائي ما يومياته في موازاة كتابة روايته نكون قد حصلنا على نص آخر، مناظَر للنص الأصلي. وربما لا نعثر على بعض مفاتيح نص الرواية إلا بين تضاعيف النص/ الظل ( اليوميات ).
لم تُكرّس كتابة اليوميات عندنا تقليداً أدبياً واجتماعياً، كما هو حاصل في الغرب. وحتّى معظم كتّابنا لا يلجأون إلى هذا النوع من الكتابة. وربما يعدّونها مضيعة للوقت والجهد. فيما حظ هذا النوع من الكتب في الترجمة عن الآداب الأخرى أقل من كتب السيرة والسيرة الذاتية. وقد يعود السبب في هذا إلى الطابع الشديد الخصوصية لليوميات، وما تحفل به من تفاصيل وإسهاب في سرد الأحداث ونقل المشاعر والانطباعات والتي يجدها القارئ مملّة، أو لا تعنيه من قريب أو بعيد. فضلاً عن افتقاد اليوميات إلى التماسك الدرامي. ذلك العنصر الذي يشدّ قارئ الرواية والسيرة. وأعتقد أن مخطوطات اليوميات لبعض الكتّاب العرب الشغوفين بتدوين يومياتهم تبقى منسية في الأدراج، وتتعرض للتلف المتعمد أو غير المتعمد، لاسيما أن عائلات الكتّاب المتوفين، بسبب المواضعات الاجتماعية الحادّة، لا يسمحون بعرض أسرارهم وأسرار موتاهم في النور.
جميع التعليقات 2
mohammed
وصف جميل لمشاعر كاتب اليوميات ومواضيعه ، والمقالة اعجبتني من حيث اسلوب الكتابة وان شابها الغموض بسبب (فلسفيتها). استطيع القول انها من بين المقالات القليلةالتي احكمت نصوصها من حيث قوة الموضوع وسلامتها النحوية ولايسعني الا ان اقف اجلالا لابن مدينتي فلك مني
أحمد من المغرب
من فضلكم.من هو كاتب المقالة؟