اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > محلات بغداد.. غياب خدمات وعوز وفي الجوار معامل لصهر المعادن!

محلات بغداد.. غياب خدمات وعوز وفي الجوار معامل لصهر المعادن!

نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 05:04 م

بغداد أهزوجة الدنيا حين يُذكر الرقي وترف الحضارة، بغداد التي كانت تسورها الفتنة بجنائن السحر، تحولت اليوم إلى نموذج صارخ للخراب والبؤس! بعد أن أدمن السياسيون  الجدد الجلوس على كراسي تهميشها  وتغييبها وإعادتها الى العصور المظلمة، وكأنها سياسة مرسومة وحسابات مدروسة ، والمشكلة أن المواطن البغدادي أصبح يائساً وفاقداً أي بصيص أملٍ ينقذ ما تبقى من ثراء حبيبته بغداد..
الوصول إلى احد الأزقة القديمة الواقعة خلف عمارات شارع حيفا يحتاج إلى خبرة ومعرفة مسبقة بالطرق الفرعية التي تقود إلى منطقة "سوق العجمي ومحلة الذهب" ولم نكف عن السؤال طوال بحثنا عن إمكانية الولوج  بالسيارة إلى هذه المناطق المغلقة،  لم نستطع معرفة الدرب السالك وتوقفنا بعد أن استأذنا امرأة تشغل كشكاً لبيع العصائر والشكولاته بأن نترك السيارة بالقرب من كشكها، لنبدأ جولتنا سيراً على الأقدام ، السيدة التي تجاوزت عقدها الرابع  والموشحة بالسواد كانت مترددة بالقبول خوفا من أن تكون السيارة مفخخة لهذا اضطر احد الزملاء للبقاء فيها لحين إكمال تحقيقنا..
المستورد قتل الحرف
دخلنا الفرع المقابل لمبنى ديوان الرقابة المالية بعد أن تجاوزنا الحواجز الكونكريتية، وبمسافة تبعد عشرة أمتار كان يجلس رجل ناهز عمره الستين عاما في محل قديم، بناؤه آيل للسقوط ولولا استناده على المحال الأخرى لسقط على شاغليه. وقد أحنيت قامت الرجل من فرط الجلوس على المقعد الحديدي وهو يمسك "المستحد" وهي آلة يطرق بها على الألمنيوم لعمل الأدوات المنزلية، وأثناء حدّه كان يصدر صريرا واضحا عند احتكاكه وكان  يعمل وبجانبه أولاده الثلاثة..
"أبو حبيب" قال لنا: بعض الرجال الحرفيين متمسكون بعملهم على الرغم من تغير الظروف وعدم جدوى العمل بعد عام 2003 وغزو المستورد للأسواق بشكل جعلنا نتوقف عن العمل لفترة سنة، وهناك  آخرون توقفوا عن العمل سنتين إلا أنهم لم يتركوه لأسباب نفسية وأخرى تتعلق بعدم قدرة هؤلاء الأشخاص على العمل في مجال آخر لا يعرفون عنه شيئاً  بسبب دخول المواد والبضائع الأجنبية والرخيصة والمنافسة لصناعتنا الحرفية.
رجال هجروا المهنة
 في حياة أصبحت أكثر عصرية  ، بدخول المكننة في كل مجالات الصناعة حتى أضحت الأعمال الحرفية تراثا نتذكره بألم وباحترام .. يستمر "أبو حبيب" في حديثهً: اسكن في محلة سوق العجمي منذ كنت طفلا وعمري لم يناهز 10 سنوات، والآن أنا في العقد السادس. المحلة كانت تابعة إلى منطقة الكريمات وجزء منها إلى محلة الذهب، كنا سابقا نشتري علب الزيوت المعدنية "التنكات" من الدوارة ونصنع "السطلات" ونطليها بالألوان ونبيعها بأسعار جيدة تناسب حياتنا حينها، لكن بعد 2003 أصبح سعر المستورد نصف المصنوع محليا.. لقد ترك الناس ما نصنع وهناك القليل من يأتي ليشتري منا ولا نستطيع غلق محلنا فهو مصدر رزقنا الوحيد وإيجاره 100 ألف دينار، وما نجنيه ، رغم بساطته يكفينا طيلة الشهر للعيش بكرامة.
تلال نفايات
تركنا "أبو حبيب" وهو يطلق الحسرات والآهات على مهنته... وما أن سرنا خطوات حتى استقبلتنا "مكبات" النفايات وكأنها تلال رسمت معالم لوحة منطقة لا صلة لها بالواقع الخدمي، الذي يعلن عنه المسؤولون يوميا بتوفيره للمواطن العراقي! وهذا ما أدركه مؤخرا "علي" صاحب معمل لصنع إطارات العربات الخشبية الذي وجد نفسه يشبه (أبو حبيب) الذي ينتظر الزبون كل أسبوع ليصنع له ثلاثة إطارات صغيرة، فبعد سنوات عمل طويلة أصبح غير قادر على أن يبيع أو يؤجر أو حتى يهجر معمله السقيم الذي أصبح دون فائدة في محيط يعج بمنتجات من كل حدب وصوب وغزته حسب تعبيره "الستوته".
العربة و3500 يومياً
كان مثار جدل واستغراب من أولاده وجيرانه الذين دائما ما كانوا ينصحونه بالكف عن عمله ويريح عينيه وجسمه الثقيل في البيت، إلا أن حب العمل والاختلاط معه لم يترك الفرصة لـ (ابو عبد الله ) أن يتخلص من هذا الالتصاق بالعربة التي يستعين بها يوميا لنقل "الجبن" من منطقة الشواكة إلى منطقة محلة الذهب والكريمات مقابل 3500 دينار فقط يعيل بهذا المبلغ خمسة أفراد، بينهم بنت معوقة يقول الرجل الخمسيني أبو عبد الله: لم يكتف الزمن بقطع أرزاقنا بسبب غلق منافذ الدخول إلى الأفرع الداخلية للمحال القديمة القريبة والمواجهة لمنطقة الشواكة ،  بل علينا أن نحمل العربة لنعبر الحواجز الكونكريتية بمساعدة من يقف من الرجال .. هل يمكن أن يتصور احد حال عائلة تعيش بمبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار يومياً وتسكن بالإيجار في غرفة تقع في سوق العجمي والرطوبة والنفايات تحيط بها من كل حدب وصوب، ويضيف أبو عبد الله ويعلو نبرة صوته الغضب على الحكومة ويسألهم : لماذا لم يأت مسؤول واحد إلى المنطقة؟ أين الجمعيات والمساعدات ألسنا ضمن الشعب العراقي المنكوب، نذهب إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لا نجد غير الوعد والوعيد بأن نحظى براتب شهري ومرت السنون ونحن على حالنا.
مصنع إطارات العربة
السير قدما في منطقة سوق العجمي  للوصول إلى محلة حي الذهب يجعلنا نرى العجب بيوت بالكاد تتكئ الواحدة على الأخرى. مناظرها لا تسر الناظرين رغم أن الملابس المعلقة كانت تستر بعض الخراب الذي حل بجدرانها الخارجية، توقفنا لوهلة بعد أن جذبنا منظر مجموعة رجال كبار في السن يلعبون الدومينو ويحتسون الشاي في "مقهى حجي حمادة" هذا المقهى الذي تأسس سنة 1940 وقد شهد تظاهرات عديدة ومنها - وحسب ما يسرد لنا الحكاية أبو سرحان الذي تجاوز عمره السبعين عاما وما زال يرسم  شاربه بشكل خط رفيع ومستقيم وذي قياسات ثابتة رغم مرور سنوات الشباب والشيب - تظاهرة الطلاب عام 1948 من هذا المقهى إلى ساحة جسر الشهداء ، وكانت التظاهرة عبارة عن احتجاج طلابي ضد الانكليز لتقسيمهم العراق "وسميت آنذاك دكة الجسر". الطلاب أيام زمان كانوا رجالا يبنون ويحمون ويضحون من اجل الوطن "ليس مثل طلاب اليوم يرتدون الحلي والملابس الضيقة وكل ما يحصل الآن هو بسبب الغرب " بحسب تعبيره.
يشاركه الحديث أبو مازن الذي يعلق قائلا: المحال القديمة أصبحت مهملة وسكنها كل من هبّ ودبّ، وهجرها أهلها الأصليون، وانتشرت المقاهي والنركيلة، وكما تنظرون.. شوارع أكل أسفلتها الأتربة والحفر، قاذورات منتشرة، مياه مجارٍ طافحة، أطفال عراة يجوبون الأزقة بحثا عن الطعام "أين أيام زمان" قالها بألم وحسرة وهو ينظر إلينا بازدراء؟! ماذا تفعلون لنا .. لا شيء! حالكم حال البقية تأتون وتكتبون وتنشرون ولا من مجيب لشكوانا، فالمسؤولون مشغولون بأنفسهم فهم " مساكين" يعملون من اجل الشعب المسكين الذي ابتلى بهم. أيام نوري سعيد كان العراقي له حصة من النفط والآن نحن نعطي المال لشراء النفط ، حتى نستطيع تدفئة بيوت قديمة متهالكة لا تخلو من الجرذان والفئران والعقارب التي أصبحت ضيفا دائما  على بيوت الفقراء.
"كورة" وسط محلة الذهب
تركنا المقهى بعد أن علا صوت رجال كثر بان "الكورة" قد تنفجر، ماذا حصل هل انتقل بنا الزمن إلى حي "طارق " في رصافة بغداد  بسرعة البرق؟ هل نحلم لكن الحدث أمامنا واقع، تقدمنا لنجد وسط محلة الذهب محل مساحته 10 أمتار تتوسطه كورة لتذويب حديد السيارات القديمة، صاحب الكورة ويدعى عامر طلب منا الابتعاد خوفا من إصابة فريقنا الصحفي بسوء وعلى حد تعبيره سوف يتعرضون للمساءلة القانونية آنذاك! سألنا عامر كيف يمكن أن تكون كورة في محل سكني ووسط بيوت قديمة واجهاتها خشبية؟ أجاب:لا احد يشتكي من السكان، أولادهم يعملون فيها ومضى عليها 7 سنوات ولا خطر من عملها وقد تنفجر أحيانا لكنها لا تصيب احد إنما فقط الدخان الأسود يغطي المنطقة!
وأضاف عامر في حديثه: إن كورته تختص بتذويب سكراب السيارات القديمة الذي يأتي به الدوارة ويشترون الكيلو 180 ألف دينار وبعد إذابته وصبه في قوالب يباع بسعر 800 ألف دينار فقط، ويكون وقود الكورة من النفط الأسود ودهن السيارات المحروق، ويضيف عامر انه ليس الوحيد الذي يملك كورة في المحلة إنما هناك جاره الذي أشار لنا بيده للاستدلال على محله ويختص بتذويب الألمنيوم القديم "كان الله في عون ساكني المنطقة".
استمر فريقنا الصحفي بالتجوال بحثا عن مختار سوق العجمي ومحلة الذهب (جاسم احمد لطيف) ذهبنا إلى منزله أخبرتنا عائلته انه ذهب إلى مكتبه، الذي يقع نهاية المحلة طلبنا أن يقوم احد باصطحابنا إليه، وفعلا تبرعت ابنته البالغة من العمر 9 سنوات، وسلكنا معها شارعا فرعيا لا يتجاوز عرضه مترا ونصف المتر يتوسطه مجرى ليس لماء الغسيل فقط وإنما لمجاري المرافق الصحية التي غطت الفرع الطويل الذي استغرق سيرنا فيه ربع ساعة للوصول إلى مكتب المختار، وطول هذه المسافة مياه الصرف الصحي تغرق الفرع الذي تبين في ما بعد انه ليس الوحيد  وإنما جميع شوارع المحلة تعاني تلك المأساة!

المختار والسكان والمجلس البلدي
وصلنا إلى مكتب المختار ويكنى "أبو سيف" تجمهر حولنا أصحاب المحال التجارية وبعض السكان من النسوة والرجال والأطفال، معتقدين أننا لجنة من الهلال الاحمر حسب تعبيرهم أو لجنة من النزاهة لكشف أعمال أمانة بغداد، أصوات شكاوى الناس تتعالى وطلبات بتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء والأمان الذي يغيب بمغيب أشعة الشمس. صوت امرأة كان سباقا بالحديث وتجاوز صوت الرجال قائلة: الحرامية يكثرون بالليل ويسرقون حتى الأواني الفارغة والستالايت والساعات ولا نستطيع أن نمنعهم. لا توجد شرطة وحراس بالليل "يابه شوفولنا حل"
معاون المختار  "أبو ماهر" طلب منا انتظار أبو سيف مختار المحلة في مكتبه، وكان عبارة عن محل صغير وُضع فيه مكتب قديم ومقعد خشبي عفى عليه الزمن "كرويته". هتف احد الأطفال "أجه المختار" أمام المكتب، التقينا أبو سيف الذي بادر سؤالنا من نمثل؟ ليطمئن قلبه؟ أخبرناه بأننا صحافة ونعمل حسب ما تثبت أوراقنا أننا في "مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون" سألناه لماذا هذه الأزقة متروك بعضها من دون تبليط والمجاري طافحة، والمياه الآسنة تمنع السكان من السير بشكل منتظم، والناس تشكو قلة الأمان والقاذورات تنتشر في كل مكان، واغلب السكان اشتكوا من انتشار البغاء في المحلة.
أجابنا المختار قائلا: كتبت وأرسلت كتباً عدة إلى المجلس البلدي لقاطع الكرخ عن إمكانية تعيين منظفين في المحال السكنية فجاءت الإجابة ثلاثة فقط يكفون، قدمنا شكاوى عديدة وبكتب رسمية لتبليط زقاق 7 محلة 210 وزقاق 9 محلة 209 وزقاق  14 محلة 231 لكن دون فائدة والنتيجة كما هي عليه.
وفي ما يخص مياه المجاري الطافحة قال المختار: جاء عمال البلدية وحفروا المجاري وتركوها ولا نعلم لماذا، والمجاري ترجع على السكان الذين يعتمدون على أنفسهم في الخلاص منها حيث تجتمع النسوة كل يوم عصرا ويبدأن بتنظيف الفروع .
اتركوهم بحالهم!!!
وأشار أبو سيف في حديثه إلى أن الوضع الأمني في المحال السكنية  القريبة وسوق العجمي ومحلة الذهب جيد نسبيا، لكن - وحسب قوله - رجال الأمن ينتشرون في الشوارع الرئيسة والفرعية وطلبوا تشكيل حراسات ليلية ولكن أيضا لا احد يستجيب. وفعلا تحدث مشاجرات أثناء الليل بسبب تسكع بعض الشباب الفاقدين الوعي لتناولهم الحبوب المخدرة والمشروبات المسكرة، مع وجود بعض بيوت البغاء وتمت مخاطبة بعض القيادات الأمنية التي وحسب قوله جاء الرد "......... ولا إرهاب"، اتركوهم بحالهم"خل يعيشون".. وأضاف أبو سيف قائلاً "انه قام بكتابة كتب عدة عن الإرهابيين والمسيئين للقوات الأمنية عام 2009، لكنه تفاجأ بمجيء الإرهابيين ووقوفهم على باب مكتبه عام 2012 وأخبروه بأنهم يعلمون انه كتب عنهم واتوا بنسخة من الكتاب الذي أرسله إلى القوات الأمنية. فماذا يفعل هو إزاء ذلك؟!!
لقد عانت هذه المنطقة على مدى أكثر من ربع قرن الإهمال والتجاهل والتسيب، حيث اختفت خدمات التبليط والصرف الصحي والخدمات البلدية الأخرى من تنظيف وتشجير وغيرها من متطلبات البنى التحتية كالكهرباء والماء الصالح للشرب. وإن هطول الأمطار في فصل الشتاء الماضي كشف النقاب عن الوضع البلدي السيئ فيها، وتجلى في غرق المحلة بالمياه الآسنة، فيما المنطقة على أبواب شتاء جديد فهل من حلول؟!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

طقس العراق.. أجواء صحوة وانخفاض في دراجات الحرارة

أسعار صرف الدولار تستقر في بغداد

تنفيذ أوامر قبض بحق موظفين في كهرباء واسط لاختلاسهما مبالغ مالية

إطلاق تطبيق إلكتروني لمتقاعدي العراق

"في 24 ساعة".. حملة كامالا هاريس تجمع 81 مليون دولار

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram