منذ أن صرخ الانطباعيون ( هذا المكان موبوء ، فلنخرج إلى الطبيعة ) وفن الرسم يمر بتغيرات ومسارات وطرق ليس لها حدود . فبعد أن هجر الرسامون الشباب مونيه وسيسلي ورينوار وآخرون مراسمهم ، وفن الرسم يتجاوز الطرق والأساليب المعروفة واحداً بعد الآخر . الانطباعية هذا الحدث العظيم الذي حرّك جبال قرون من ثبات الرسم وتقليديته وقواعده المتزمتة ، وهي كانت أوّل انحراف عن طريق الآباء والأساتذة والمعلمين الأوائل . هكذا وبلحظة تاريخية نادرة ، حمل هؤلاء الشباب قماشاتهم وعدة الرسم ووضعوا أنابيت أو تيوبات الألوان في جيوبهم وخرجوا إلى الهواء الطلق حيث الضوء الباهر لأشعة الشمس وهم يرسمون لوحاتهم ويكملونها خارج المرسم ، بلسمات سريعة وألون قزحية . ومن ضمن تلك اللوحات كانت لوحة انطباع في ضوء الشمس ( 1872 ) للفنان كلود مونيه ، والتي استمد اسم الانطباعية منها . زمن طويل يفصلنا الآن عن سنة 1874 حيث أول معرض للانطباعيين في باريس لكن لوحاتهم مازالت هي الأكثر شعبية على مستوى العالم . وزوار المتاحف مازالوا يتابعون أعمالهم بمتعة وانسجام كبيرين .
لكننا الآن ، حين نودّع مراسمنا ونذهب إلى الخارج ، فهل علينا أن نستمر بلعب دور الانطباعيين ، ويكون هدفنا هو رسم الطبيعة بطريقة مختلفة فقط أم يمكن أن نستثمر ذلك بشكل آخر ؟ وماذا يفعل النحات في هذه الحالة ؟ وهل يمكن لرسام تجريدي على سبيل لمثال أن يستثمر وجود الطبيعة ليرسم أعماله التي لا تحتوي على الموجودات الخارجية أو أي تشخيص آخر ؟ من خلال هكذا تساؤلات وغيرها ، ظهرت مهرجانات الفن في الهواء الطلق أو ما يطلق عليها أحياناً ( السومبوزيوم ) لتعيد للفضاء هيبته وللضوء قوته وللمشاركة حضورها وتأثيرها . وبما أن الحديث هنا يتعلّق بالخروج إلى الطبيعة فإن الكثير من الفنانين فهموا أن السمبوزيوم هو رسم الطبيعة نفسها أو الرسم الحر خارج المرسم ( وهذا ممكن بالتأكيد ) ،لكن لا يمكن أن نطلق هذه التسمية على كل مجموعة ترسم الطبيعة في الخارج ، فهناك مواصفات وأهداف ووسائط معينة يجب أن تتوفر لتكوين ذلك ، والسومبوزيوم كلمة لا تخص الفنون التشكيلية على الإطلاق ، وقد استحدثت أو استعملت حديثاً في الأوساط الفنية ، وهي كلمة جاءت من الإغريق وتعني في اليونانية القديمة حرفياً ( نشرب معاً ) وكانوا يستعملونها في الأعياد والمناسبات التي يجتمعون فيها للشرب والأكل والمتعة مع محادثات وفعاليات تكون بهيجة ومرحة . وتغيرت مع الوقت وأصبحت تشمل حوارات ونقاشات جادة ورصينة . بعد ذلك بفترة طويلة ، استعملت الكلمة لتعني موضوعا محددا أو حقلا من حقول المعرفة الإنسانية ، يجتمع من أجله المتخصصون لعرض أو استعراض نتاجاتهم وجديدهم ليطّلع عليها الآخرون ويتبادلون الخبرات والمنفعة في اختصاصاتهم . لهذا نرى اليوم مثلاً سمبوزيوم للأطباء وآخر لمربي الماشية وثالث لعلماء البيئة ، وهكذا . وفي حالات خاصة يمكن أن يكون في أماكن مغلقة ، لكن في العادة يحدث أو يقام في أماكن مفتوحة وواسعة . ورغم أن طريقة السمبوزيوم يمكن أن تستثمر في الفنون التشكيلية ، لكن هذا لا يعني أنها فقط للمختصين بالرسم أو النحت أو الفن كما يفهم البعض .
وبما أن الرسم في الخارج يمنح النفس صفاء ومتعة ، فأنا أتذكر الآن ذلك الرسام المتزمت الذي لا يبارح مرسمه حتى عند رسم الطبيعة ، والذي جلب في إحدى المرات بقرة جاره المزارع وأدخلها إلى المرسم كي يرسمها مع المنظر الذي تخيله دون أن يراه بشكل جيد في الخارج ، وهو لا يعرف أنه أغلق باب المرسم أمام الضوء والجمال والتغيير!
بقرة داخل المرسم
[post-views]
نشر في: 4 إبريل, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...