TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > خمسة أصوات بين زمني غائب طعمة فرمان الجميل والموتى الأحياء ( ٤ ):صوت فائق روفائيل بطي...

خمسة أصوات بين زمني غائب طعمة فرمان الجميل والموتى الأحياء ( ٤ ):صوت فائق روفائيل بطي...

نشر في: 4 إبريل, 2014: 09:01 م

يذكر التاريخ ان جانباً من التحولات الكبرى في المجتمعات المتكونة، كانت تتحقق كل مئة عام. وهي تحولاتٍ تنوش المعتقدات وما يطاولها من تقهقرٍ أو تجاوز إيمانٍ متشددٍ، أو تفككٍ وتسامٍ في احترام العقل وهيبته. ومثل هذه التغيرات تعكس واقعاً تنمو فيه وتتصادم ال

يذكر التاريخ ان جانباً من التحولات الكبرى في المجتمعات المتكونة، كانت تتحقق كل مئة عام. وهي تحولاتٍ تنوش المعتقدات وما يطاولها من تقهقرٍ أو تجاوز إيمانٍ متشددٍ، أو تفككٍ وتسامٍ في احترام العقل وهيبته. ومثل هذه التغيرات تعكس واقعاً تنمو فيه وتتصادم التناقضات الاجتماعية الاقتصادية، لتنبعث منها قيم وعادات وتقاليد، وأنماط من المعيشة والعلاقات.

وكلما " تآكل الزمن " بفعل التطور الخلّاق في العلوم، وصغُرَت "وحدته القياسية" لتصبح في نهايات القرن الماضي "نانوية" عبقرية، كثرت إبداعات الإنسان فيكون تخيلها في الوعي العام من بين الأساطير والخرافات. فتجرف كل شيءٍ في حياتنا، ومن حولها وفي طريقها. ولم يعد التحول والاكتشاف العظيم، يُحسبُ بالقرون، والعقود، والسنين، بل بالأجزاء الرقمية النانوية، حيث تبزغ كل لحظة في المختبرات المحصّنة، إشراقة تحولٍ يكتسح حياتنا الشخصية، ويغمر المجتمعات الإنسانية بفيضٍ من القيم المادية المتناهية الصغر، لتكشف الأسرار الدفينة في الأكوان الممتدة بأبعادها المتوارية عن العقل البشري!
وفيوض الإعجاز العلمي، تنعم بها البشرية بفضل انفتاح المجتمعات على العقل وما يدور فيه من جدلٍ مُمضٍ، وما يعكسه وهو يتابع تحولات جدله في المجتمع والأفراد الذين يعتمدون العقل وسيلة اكتشافٍ ونمو وتطور ونمط عيش، متجاوزين أشكال
 "الحجر" عليه، وتجريده من "سببية" مركزه من استمرارية الوجود وادراك حقيقته وتجاوز سكونه وانغلاقه.
( ٢ )
شهد النصف الاول من القرن العشرين اكبر كارثتين تمثلتا في حربين عالميتين، انهكتا العالم، فيما سلبتهما من أرواح سكانه، وتدمير بُناه، وإعادة تخليق قيمه وأفكاره وأدوات التطور فيه، والصراعات المُهدِدَة بالفناء الكوني، بوسائل الدمار الشامل. وفي قلب الصراع بمختلف وسائله، انبعث نظامٌ جديدٌ بشّر بتغيير العالم ليصبح اكثر عدالة وأوفر عطاء وعيشاً وسلاماً.
كان العراق في تلك اللحظة، في حالة انتقالٍ من الماضي العثماني، الى دولة على طريق التكوين، بين حربين عالميتين، ومعسكرين ايديولوجيين، وثلاثة أنظمة تجمع بين اثنين منهما، الفاشية والليبرالية، قاعدة اجتماعية اقتصادية مبنية على الاستغلال والتفاوت الطبقي، رغم التناقض التناحري بينهما، في مواجهة النظام الآيديولوجي الذي يؤسس لتجاوزهما وإرساء أسس عالم بلا طبقاتٍ ولا استغلال.
لم تكن الدولة العراقية، ومجتمعها الفسيفسائي المنطوي على التنوع المتناقض، قد استقرت، وتحددت ملامح تكويناتها، وتبلورت ملامحها الطبقية، مما انعكس على طبيعة استقطابات القوى الاجتماعية، وانحيازاتها الفكرية والسياسية، وتمثّلها في الأحزاب الناشئة، والحياة السياسية. وتجسدت تلك الاستقطابات في حراكٍ متناقض يعكس المصالح الطبقية التي تمثلها الشرائح والفئات المنضوية فيها، وكانت الظاهرة الأبرز في الحياة الحزبية والسياسية، بعد تشكل الدولة، مروراً بمراحل تطورها، حتى سقوط النظام الملكي في عام ١٩٥٨، الانحيازات "الاجتماعية - الطبقية" خارج اطار المصالح الطبقية الضيّقة، وربما كان للهدف الوطني العام بإنجاز مهام التحرر والسيادة، وغياب الديمقراطية، وتكرّس الظلم الاجتماعي، دور محوري في تشكل تلك الظاهرة.
وفي هذا الاطار، يمكن تقييم انحياز وانضمام بنات وأبناء الأسر البرجوازية وكبار الملاكين "والاقطاعيين"، والنخبة من المثقفين المنتمين الى الفئات العليا من البرجوازية، الى الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية بوجه عام.
( ٣ )
كان فائق بطي ابن الشخصية الوطنية البارزة، الوزير والكاتب الصحفي، صاحب جريدة "البلاد"، من بين "المتجاوزين لانتمائهم الطبقي"، وانحيازهم الى صفوف الحالمين بعالم تنتفي فيه التراتبيات الطبقية المشوهة، وتسوده العدالة الاجتماعية، وسيادة العقل والحرية، كأن انحيازه الشخصي، هو تعبير عن سويته وسلوكه ونمط حياته، طبعتها فيه "صبغته الوراثية".
( ٤ )
التقيته في وقت ما من أوائل ستينيات القرن الماضي في جريدة البلاد التي يرأس تحريرها، وقد بدا لي كما لو انه يختزل كماً من الهِدايات، وفناراً يكشف قدراً يتربص بنا. وتكرست صورته في ذهني، المشدود للكشف عن سرائر الناس، وانا في اول طريق البحث عن ذاتي، كمهتدٍ للحقيقة، متفانياً، بلا تصنعٍ في خياره او تلوّنٍ في انعكاسات ذلك في حياته الشخصية والاجتماعية . كان يبدو لي من الوهلة الاولى آنذاك، في غاية الانسجام، يتعذر تلمس تناقض بين هويته " الطبقية " وانسلاخه عنها. وعبر المسارات المهمومة لخمسة عقودٍ ونيف من صداقة حميمة جمعتنا، ظلت هذه الصورة تتألق في ذهني، حتى كأنه هو نفسه، عصيٌ على "سُنّة الحياة" التي تفترض التغيّر، سوى ما يعكسه العمر وصروفه من أهواء وأمزجة وتجاذبات.
فائق بقي "مثقفاً" في "حلّة كادحٍ" يُشبه المياوم الذي يلتقط رزقه أنّى شاء له الحظ أن يكون. ومن النادر ان يُذكّرك ببيئته الاجتماعية كولد مدلّلٍ لأب مثقف وأسرة ميسورة. لا يذكَرك، بوالده الوزير، الا بصفته الصحفي والكاتب الوطني التنويري. ويصعب ان ترى في جوانب حياته ما يشي بالتعالي على محيطه الاجتماعي، او اطار أصدقائه ورفاقه، ومن لا يعرفه، لا يرى فيه غير ماهو عليه كإنسانٍ حاضرٍ، بانتمائه الفكري والسياسي، وتجلى خياره هذا في مختلف مراحل حياته منذ ان تعرفت عليه.
( ٥ )
كان لقاؤنا الاول، صادماً.
ذهبت للقائه وانا احمل توصية حزبية للانضمام الى العمل في "البلاد". ودخولي الى مكتبه، شكّلَ "معصيّة" للفقيد سامي بطي، شقيقه وصاحب امتياز الجريدة، اذ انتبه الى ما يشي به عمري وملامحي، وهما ما أوحيا له بأني اصغر سنّاً من أكون سوى مستطرقٍ ضيّع طريقه فاقتحم مكتبه.
بادرني بالسؤال: خير ..؟
قلت: جئت لأقابل الأستاذ فائق بطي!
قال: نعم ..؟
.........
فأنقذني فائق من الجواب وهو يقتحم المكتب ويسمع السؤال: اهلاً اهلاً اتفضل ..
واندهش سامي، وربما التوى ذهنه..
ثم بدأت مسيرة صداقة ستدوم بعد رحيلنا، لتؤشر لزمن كانت الصداقة فيه مأثرة وقيمة تسمو على خرائب الحياة، وتلك المسارات التي تفضي الى القيم والعادات الرثّة المتدنية..
 ( ٦ )
في تجربة الحياة المشتركة، محطاتٌ تستحق الكشف، لعلها تومض بفيضٍ من القيم والانحيازات الايجابية التي تنطمر هذه الايام تحت ركام الرثاثات والأنانيات والفساد.
في المرحلة المظلمة من ايام البعث، وما بعده، كنت أُهيم وانا أواصل نشاطي، متخفياً قدر ما أستطيع، وأنا هاربٌ من السجن، متنقلاً من بيتٍ لآخر. لم يكن ميسوراً تنقلي الليلي، عائداً الى مخبئي البعيد في بيت أخي وصديقي الذي طوقني وأسرته الكريمة بالحماية.
فائق كان الوحيد الذي يصر على إيصالي الى اقرب نقطة من البيت، مصطحباً معه زوجته الاولى العزيزة، ابنة الضابط والصناعي، وأسنانها تصطك طوال الطريق، وهي تردد: جوز من فائق ارجوك ... وكان رد فائق وهو يبتسم، "صيري رجّال يا مرة"، وهي تقول له: "انت صير مريّة حتى تعرف مشاعري يا استاذ فائق..!".
لكنها كانت، في كل مرة تتغير، وتصبح اكثر ألفة وحميميّة، وتخاطب فائق كلما كانت تردد على مسامعه " صير مريّة " يا رفيق فائق، بدلاً من يا استاذ..
حتى جاء يومٌ ونحن في حالة اجتماع في بيته، نخطط لدور اللجنة التي تضم فائق، في اطار نقاشاتٍ تخوضها التنظيمات الحزبية، لتطبيق توجهات الحزب للإطاحة بالنظام القائم، وبحضور قيادي، كما أذكر، ورد ذكر فائق او هو تطوع بالمشاركة في احتلال الإذاعة، وقطعت حديث فائق قرقعة سقوط صينية الشاي وتكسر الأواني، وتبعثر الكعك..! ويبدو انها كانت تستمع الى الحديث وراعها "تورط" فائق في عمل مسلح قد يودي بحياته ويأتي على حياة الأسرة كلها.
لم تكن السيدة الكريمة تعرف ان ذلك لم يكن سوى صدىً لصراعاتٍ في القيادة لم تثمر الا المزيد من التراجعات والاخفاقات والخيبة.
في تلك الليلة وهما يعودان بي بسيارتهما الى مخبئي، قالت بارتباك وغيظ: يعني انت مصر ان تدمر حياتنا.. يا رفيق ..؟ ترا..
اجابها فائق: يعني تريدين ننفصل..!
( ٧ )
باع فائق حصته في مطبعة يملكها مع صديق آخر، ليشتري محلاً قريباً من سكنه، لنتشارك به، ويصبح سكناً ومخبأً ومركزاً لنشاطنا الحزبي، ليتخلى عنه بعد فترة قصيرة ويكتفي، بان يسحب من المحل ما يتوفر فيه من سكاير تغطية لحصته..!
( ٨ )
على دروبنا المشتركة، محطات ومآثر ، لكنها قد تجد مكانها في كتاب. اما ما ينفع ويُغني، فالإشارة اليه توضح الملامح التي تكّون قامة انسانٍ ظل وفياً لخياره الفكري والسياسي، ملتزما بالحزب الشيوعي العراقي الذي تدرّج في صفوفه حتى صار عضواً في لجنته المركزية.
في منفاه بلندن، اختار ان يتعلم مهنة ترميم البيوت ودهانها! وكان يُشارك رفاقه ويشكل فرق عمالة لإنجاز العمل.
في مرحلة لاحقة، عرضت عليه برجاء قبول بعض المبالغ التي تساعده على تناول ثلاث وجبات في اليوم بدل وجبة سيّارة ونصف، تمنع وهو يتعذر بان "معلوماتي" عن وضعه المعيشي غير دقيقة!
تدّبر ابن الوزير شظف العيش لفترة طويلة، وهو يتصرف كشيوعي يستعصي على الانكسار!
نقطة ضعفه التي ازدادت في حياته الشخصية، تلبس القلق الذي يلازمه كلما غابت عنه زوجته سعاد التي أضفت على حياته معنىً آخر!
وربما تخاطبه سعاد للمناكفة وهي تقول له كلما ابتعدت عنه للضرورة: "خليك رجال فائق لا تخاف ما راح اتأخر.."!
انا فخورٌ بصداقتك التي، أصبحت نسيج ما تبقّى من حياتنا الفانية..
ولا بأس، فانا أعتز بما يثير فيك غروراً لا يخدش سويتك، كلما تماديت في مخاطبتك لي "يا ابن البلاد"..! مفاخراً بانتمائي الى جريدة البلاد و"تخرجي منها" بتفوق كما يحسب...
إنني أيها الصديق الحميم فخورٌ بمدرستك النبيلة..!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ابو اثير

    سيدي الكريم...أعادتني مقالتك الى بداية عام السبعينات من القرن الماضي عندما كنت طالبا في الجامعة المستنصرية وأنشر بعض المقالات والتحقيقات في جريدة التآخي وكان مقرها في شارع الرشيد قرب سينما روكسي ومحل ملابس ألياس حسو وكان لي صديق يعمل في آرشيف الجريدة الوا

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram