أن تفتح ممراً إلى الطفولة بوساطة اللغة يعني أن تحرر طاقة الشعر. فاللغة، في رحاب الطفولة، حرية، وانشغال بحرارة الحياة وطزاجتها وتوحشها النقي البكر، وانهمام بنبع الأشياء ونقائها البدئي.. هناك تحدث تجربة الدهشة الأولى، أي الهزة الأولى للوعي بعد أن يكون
أن تفتح ممراً إلى الطفولة بوساطة اللغة يعني أن تحرر طاقة الشعر. فاللغة، في رحاب الطفولة، حرية، وانشغال بحرارة الحياة وطزاجتها وتوحشها النقي البكر، وانهمام بنبع الأشياء ونقائها البدئي.. هناك تحدث تجربة الدهشة الأولى، أي الهزة الأولى للوعي بعد أن يكون المرء قد افترض نفسه مركزاً للعالم، أو اعتقد أن العالم لم يوجد إلاّ من أجله. وحين تتوالى الصدمات بعد ذلك؛ صدمة إثر صدمة لتطيح بالافتراضات تلك واحدة واحدة، سنتأكد من أننا ملقون، على الرغم منّا، في خضم لا يُستهان به، علينا الصراع معه طويلاً. وأن في هذا العالم، إلى جانب الأشياء الجيدة الكثيرة ثمة الحزن والألم والإحباط والذل والقسوة والفشل والخذلان.
في سيرته الذاتية ( عشت لأروي ) يختار لنا ماركيز أكثر صور طفولته قوة وسحراً، تلك التي ستجد لها حضوراً أو ظلالاً في قصصه ورواياته. فهو يعترف بأنه لم يكتب شيئاً خارج ما عاشه ورآه. وإنه عاش ليروي لنا قصصاً خبرها وأعاد صياغتها بمعونة المخيلة أولاً وأخيراً.
لم تشكل طفولته، في ذاكرته، علامة تاريخ مأزوم، ولم تخلّف في روحه رضوضاً وعُقداً، ولذا لم يسع إلى تصفية حساب معها مثلما فعل سارتر في كتابه ( كلمات ).
يكتب ماركيز عن طفولته بمرح، يخبر مع فعل الكتابة متعة مزدوجة.. متعة أن تكتب، ومتعة أن تسترد، من طريق اللغة، أصداء متع سبق وأن تلاشت في طرقات الزمان. ما يحدث مع سارتر لهو أمر مختلف، إلى حد بعيد. فسارتر يكتب عن طفولته بنوع من المازوخية، أي أنه يستعذب الألم وهو يحكي عن علاقاته مع أفراد عائلته. وربما كان يكتب بشيء من الحقد أيضاً.. إن طفولة ماركيز الملونة المشرقة تقابلها طفولة سارتر الرمادية القاتمة.
طفولة بالمزاج الذي ينظر به إليها ماركيز لابد أن تصنع منه سارداً ديدنه إبهاجا. وطفولة بالمزاج الذي ينظر به إليها سارتر لابد أن تصنع منه فيلسوفاً مقصده إقلاقنا.
ما شغل بال طه حسين في كتاب ( الأيام ) غير ما شغل بال ماركيز وسارتر في كتابيهما حيث كانت الكتابة عن الطفولة عندهما غاية قائمة بحد ذاتها، فيما أراد طه حسين أن يقول لنا كيف وصل إلى ما وصل إليه عبر سرد منتقيات من وقائع طفولته. فهو هنا يخاطب قارئاً يتوقعه غير القارئ الذي يتوقعهما ماركيز وسارتر. ناهيك عن اختلاف البيئات والسياقات الثقافية.
وإذا كان أورهان باموق في كتاب ( اسطنبول ) يخبرنا عن ذات مستنسخة منه كان يتخيلها في طفولته ( أورهان آخر يعيش مثله تماماً، في بيت مشابه لبيت عائلته، في مدينته عينها ) فإن ناتالي ساروت ستبتكر لنفسها في مرحلة النضج ذاتاً أخرى تجري عملية استجواب دقيقة وصارمة لطفولتها، أو لذاتها الطفلة في كتابها ( طفولة ). فبالتناظر مع ذاتها ( ناتالي ) تظهر ناتالي ( ثانية ) محاورة ذكية، على قدر من الجدّية والنباهة والصراحة والتعاطف والتفهم، مع بعض الشكوك أحياناً.. ناتالي الثانية هي التي تتدخل في لحظات حاسمة، قاطعة مجرى السرد من أجل تصويب معلومة، أو بيان وضع نفسي وشعوري ما يرتبط بتلكم السنوات البعيدة.. إنها تحفِّز في سبيل مزيد من السرد؛ مزيد من النبش في الماضي الآيل إلى النسيان.
تلقي ناتالي الثانية جملة الاستهلال في الكتاب، في صيغة سؤال؛ "ـ إذاً ستفعلين هذا حقاً.. استرجاع طفولتك؟" هذه الطريقة الحوارية في كتابة السيرة الذاتية الخاصة بمرحلة الطفولة تفعم الكتاب بالحيوية، وتمنحه زخماً وجدانياً، ومسحة آسرة من الصدق.