لم أكن غريباً عن الكتاب ولم يكن الكتاب عني غريباً ، فقد فتحت عيني – حين فتحتها – على خزانة كتب كان والدي – رحمه الله – قد اقتناها وهي تتكون من عدة رفوف لها بوابة ذات مصراعين وكثيراً ما كنت أفتح بوابتها وأجيل الطرف في رفو
لم أكن غريباً عن الكتاب ولم يكن الكتاب عني غريباً ، فقد فتحت عيني – حين فتحتها – على خزانة كتب كان والدي – رحمه الله – قد اقتناها وهي تتكون من عدة رفوف لها بوابة ذات مصراعين وكثيراً ما كنت أفتح بوابتها وأجيل الطرف في رفوفها مبهوراً ، وحين كنت أرى والدي وقد جلس أرضاً تحت المصباح النفطي وقد أسند ظهره إلى الجدار واستغرق في القراءة أتمنى أن يأتي اليوم الذي أكون فيه قادراً على قراءة هذه الكتب والانتفاع بما فيها من العلوم والمعارف وشد ما سروري يزداد حين يكلفني والدي بإعادة كتاب إلى الخزانة أو جلب غيره بعد ان يصفه لي وصفاً كاملاً (جلده كذا وحجمه كذا) فأعود إليه بالكتاب المطلوب، وقد ملأ السرور جوانحي وطفح البشر على قسماتي .
وحين انتقل الوالد إلى رحمة الله اضطرت العائلة تحت وطأة الحاجة لأن تبيع شطرا من هذه المكتبة وخاصة كتب الفقه والتفسير والحديث والعقائد ،وقد استخلصت لنفسي الكتب النحوية والأدبية والبلاغية والتي أصبحت بعد ذلك نواة فما ضننت به من تلك الكتب شروح ألفية ابن مالك الأشموني والخضري والمكودي بطبعاتها الأولى ذات الورق الأصفر وكذلك من الكتب الأدبية التي احتفظت بها معاهد التنصيص للعباسي والطراز في البلاغة للعلوي اليماني وديوان المتنبي بشرح البرقوقي في طبعته الأولى عام 1932 ومن الكتب التاريخية ثلاثة أجزاء من تأريخ ابن خلدون وجزء يضم تعليقات الأمير شكيب أرسلان عليه، ومن كتب التفسير احتفظت بالكشاف للزمخشري ومن الحديث بأجزاء من صحيح البخاري وغيرها من الكتب التي تلائم هوايتي وهي تمثل الجانب الطارف منها – فقد بدأت عام 1943 عندما دخلت مدرسة متوسطة الكرخ فقد لمحت ذات يوم بيد احد زملائنا ديوانا ضخما فطلبته منه وتصفحته فاذا به ديوان الرصافي (طبعة بيروت عام 1931) فسألته متعجبا من أين لك هذا (يا عبد الغني) فقال انه يعود لأخيه الأكبر وانه اشتراه من سوق السراي فأزمعت امري وصممت على اقتناء نسخة منه وقد وجدتني ذات يوم ادخل سوق السراي وفي جيبي دينار واحد فما كنت أخطو عدة خطوات حتى وقفت أمام مكتبة تحمل اسم (الإصلاح) لصاحبها صادق الشكرجي ،وكان رحمه الله بدينا أنيقا يبدو لرائيه وهو ببذلته البيضاء وحمائل سرواله وربطة عنقه الحمراء، وكأنه طبيب جراح أو صيدلي فجمعت شتات شجاعتي وسألته هل عندكم ديوان الرصافي ؟ فأجاب نعم ثم التفت إلى احد الرفوف وقدم لي نسخة مجلدة تجليدا إفرنجيا ومذهبة فسألته عن ثمنها فقال لي (800) فلس فنقدته الدينار وأعاد لي ريالا (وحدة نقدية تساوي 200 فلس).
كان باعة الكتب أنماطا أعاجيب منهم السهل السمح ومنهم المماكس المغالي ،ومن الذين اذكرهم بخير ولمست فيهم مروءة وسماحة المرحوم نعمان الأعظمي (صاحب المكتبة العربية) فقد أتيته يوما لشراء كتاب (العقد المفصل) للسيد حيدر الحلي فسألته عن ثمنه فقال لي (300) فلس وبما انك طالب أدب فتشجيعاً لك هات ربع دينار فأخذته شاكرا له هذه الأريحية..
ومن أولئك الكتبيين الذين تركوا أثرا طيبا في نفسي المرحوم قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى فما اشتريت منه كتابا إلا وأجرى عليه خصما مناسبا ولم اكن اعرف يومئذ هذا الأسلوب في البيع. وان انسى لا انسى المرحوم محمود حلمي صاحب المكتبة العصرية فقد وجدت فيه طيبة وسماحة وقد ادركته في سنيه الأخيرة.
لقد اصبح سوق السراي نزهتي المفضلة ألم به كلما توفر لدى شيء من النقود فقد كانت الكتب يومئذ زهيدة الأثمان ،واذكر اني اشتريت كتاب (صندوق الدنيا) لإبراهيم عبد القادر المازني بأربعين فلسا وكانت المجلات القديمة وخاصة مجلة الرسالة والرواية والثقافة مطروحة أرضا وقد وقف عليها من ينادي بأعلى صوته العدد بعشرة فلوس فاستطعت ان اقتني منها أعدادا وفيرة هي اليوم قرة عيني وبهجة قلبي.
وأذكر ان مجلدات من الجرائد العراقية القديمة قد طرحت للبيع عن طريق المزايدة وقد علمت أنها تعود للمربي الأستاذ ساطع الحصري بعد ان أسقطت عنه الجنسية العراقية وقد ظلت أيدي الباعة تتعاور صحفه وكتبه مدة طويلة تارة عن طريق المزايدة وأخرى عن طريق المساومة.
وحين اصبح لي مورد ثابت من المال خصصت شطرا منه لاقتناء الكثير فقد عينت معلما في مدرسة التفيض عام 1952 وبذلك ازدادت قدرتي على الشراء..
بدأت أول الأمر بجمع كتبي في زاوية ثم ضاقت فاشتريت (دولابا) من سوق الهرج فاختنق بعد مدة من الزمن فخصصت لها غرفة صغيرة من غرف الدار ثم ضاقت كما ضاق قبلها (الدولاب) ومن رأيي في المكتبة والانتفاع بها يجب ان تكون في متناول طالبها فاذا كدست ونضد بعضها فوق بعض فقد صارت مخزنا وعندئذ يتعذر الانتفاع بها، لذا رأيت ان اركنها في رفوف متوازية بحيث تكون جميعها تحت نظري وفي متناول يدي فان من عادتي اذا قرأت كتابا وخامرني شك في نص من نصوصه ان ارجع إلى مظانه لأقارن بين ما أورده المؤلف وماهو مدون في المصدر المنقولة منه تلك النصوص وكثيرا ما كنت اقف على فروق واختلافات مما وقر في نفسي ان اكثر المؤلفين تعوزهم الدقة واحيانا الأمانة أو ان بعضهم يرجعون إلى مصادر ثانوية ويوهمون القارئ بأنهم استقوا من الأماكن الأصلية وذلك بسبب الكسل أو التسرع وإيثار الميسور على المعسور..
إن مكتبتي على صغرها وبساطتها – هي واحتي في صحراء الحياة آوي إلى ظلالها الوارفة وقطوفها الدانية وجدولها العذب النمير كلما أمضني لهيب الهاجرة أو حزبني امر من أمور هذه الدنيا – وما أكثرها – فأجد فيها روحا وريحانا ثم أستغرق بين سطورها في حلم صوفي سعيد لا يوقظني منه إلا عندما اجد النعاس قد عقد أجفاني واخذ رأسي يهوم واحيانا يسقط الكتاب من يدي من شدة الإعياء.