كنا نعرف أن الوسيط الأميركي لن يكون نزيهاً، وأن ما يطرحه من أفكار لن يتجاوز ترديد ما يسمعه من الطرف الإسرائيلي، وأن الهدف الأساس من جولاته المكوكية التي استوطن خلالها المنطقة، لن يكون أبعد من الحفاظ على أمن إسرائيل، ومنحها كل ما تحتاجه من وقت لتنفيذ مخططها الاستيطاني، الذي سيمنع التوصل إلى أي حل ينتهي بقيام الدولة الفلسطينية، ونعرف أن جون كيري، بعد كل الضغوط التي مارسها على الطرف الفلسطيني، لجأ إلى حلفاء واشنطن في المنطقة، لمشاركته تلك الضغوط، وأن البعض خضع للطلب، لكننا نعرف أيضاً أن كل ذلك لم يجد نفعاً، وأن المفاوض الفلسطيني ظل متمسكاً بما يراه حقوقاً لايمكن التنازل عنها، حتى وإن أدى ذلك إلى انهيار جولة التفاوض التي انتدبت واشنطن نفسها لإدارتها.
آخر ما تفتقت عنه عبقرية كيري، هو لوم الفلسطينيين على قرارهم بتوقيع 15 اتفاقية ومعاهدة دولية، واعتباره أن تلك خطوة أحادية الجانب، تُعادل كل خطوات الإسرائيليين أحادية الجانب، التي خرقت كل التفاهمات المبرمة، وضربت عرض الحائط على وجه الخصوص، الاتفاق الذي بدأ كيري بموجبه رعاية المفاوضات، والمؤكد أن هذا اللوم لايتجاوز محاولة التغطية على الموقف الاسرائيلي المُتعنت والمُتغطرس، مع أن الوزير الأميركي يعرف جيدا أن الفلسطينيين لم يتخذوا هذه الخطوة، إلّا بعد يأسهم من الوصول إلى اتفاق الإطار، بعد أن مارست حكومة اليمين المتطرف كل ما توفر تحت يدها، لحشرهم في أضيق الزوايا، ما دفعهم إلى رد فعل لايرقى إلى مستوى الممارسات الإسرائيلية، وهو حق لهم تضمنه كل الشرائع الدولية، وإن سعى الوسيط الأميركي غير النزيه، لتصوير تلك الخطوة بأنها تعادل كل الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل، عن سابق تصور وتصميم، بهدف نسف المفاوضات وتحميل الطرف الفلسطيني مسؤولية ذلك.
يتناسى كيري وهو يطلق "تهديداته"، أن نتنياهو رفض كل مقترح طرحته واشنطن في لحظة صحو الضمير، ويتجاهل أن تعنت نتنياهو أرغم سيد البيت الأبيض، على التراجع المُذل عن كل مابشر به في جامعة القاهرة، حول لاشرعية المستوطنات وضرورة الوقف التام للاستيطان، وإمعاناً في الاستخفاف، كانت إسرائيل تستبق كل جولة من جولاته، بالإعلان عن دفعة جديدة من المستوطنات، أغمض عينيه عن مماطلة نتنياهو، التي توجها برفض الإفراج عن الدفعة الرابعة من المعتقلين، وهي الخطوة التصعيدية التي أطاحت مشروعه، بعد أن وصل قطارها قريباً جداً من محطته الأخيرة، تجاهل كل هذه الخروقات ليشن حملة تضليلية تضع الفلسطينيين والاسرائيليين في سلة واحدة، تُساوي بين المنهج التوسعي والعدواني والاستعلائي المعتمد عند نتنياهو، وبين رد الفعل الفلسطيني على كل ذلك بخطوة منسجمة تماماً مع الموقف الأممي، المتمثل بالاعتراف بدولة فلسطين.
يدرك كيري أن وقف المفاوضات ليس في صالح الفلسطينيين، وأن النتيجة الطبيعية هي إطلاق يد اليمين الصهيوني، للمضي في زرع المزيد من المستوطنات في جسد الدولة الفلسطينية العتيدة، وأن ذلك سيُفضي إلى انتعاش الأفكار المتطرفة والعنفية، في منطقة لاتحتاج مزيدا من العنف والتطرف، بقدر حاجتها إلى تهدئة، تلتقط خلالها الشعوب أنفاسها وتتوقف عن بذل المزيد من دماء أبنائها، إلا إن كان استمرار ذلك رغبة أميركية، لايمكن فيها تحقيق أهدافها، وتكون نتيجتها انتصار اسرائيل بالضربة القاضية على فكرة السلام، التي تسعى لها شعوب المنطقة، وتعمل من أجلها، حتى لو تطلب ذلك التنازل عن بعض الحقوق.
كيري.. الوسيط غير النزيه
[post-views]
نشر في: 6 إبريل, 2014: 09:01 م