TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > "اســطــنــبـــول" أورهـــان بـــامـــوق.. ســـيـــرة فـــنـــان ومــــديــ

"اســطــنــبـــول" أورهـــان بـــامـــوق.. ســـيـــرة فـــنـــان ومــــديــ

نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 03:27 م

سعد محمد رحيم أطلق أورهان باموق على الكتاب الذي خصصه للحديث عن مدينته وعلاقته بها اسم (اسطنبول)*. وهذا العنوان بدءاً لا يكشف لنا جنس الكتاب الذي بين أيدينا. هل سيصطحبنا المؤلف في دهاليز التاريخ، أم سيحكي عن اسطنبول المعاصرة؟ أم سيتنقل بين الماضي كما قرأ عنه ووجد آثاره،
وبين الحاضر كما عاشه وخبره؟ أهو كتاب في الجغرافيا مشرّبة بعلوم الطبيعة، أم في الأنثربولوجيا؟ أم تراه سيجعل من المدينة مناسبة للخوض في إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب؟ أو ربما سيرسم بالكلمات لوحة عن المدينة كما صُوِّرت عبر عيون الرحّالة والمستشرقين في غضون بضع عشرات، أو مئات من السنين؟. ينطوي العنوان على الرغم من بعض تجريده وكونه مباشراً (حافياً) على شيء من الغموض، أو قل على عنصر مخاتلة. لكنه في النهاية يمنحنا وعوداً خصبة، لاسيما مع اسم مؤلفه أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب 2006. وحين ننتهي من قراءة الصفحات الأولى يتهيأ لنا أن باموق أسقط عامداً كلمة (أنا) التي من الممكن أن تكون معطوفة على اسم المدينة لأسباب قد لا تتعلق بالتواضع، وإنما لرغبته في أن يحلّق في فضاء الكتابة بحرية تتجاوز اشتراطات الأنا وحدودها. والكتاب في جانب منه إذن سيرة مدينة، وفي جانب آخر سيرة أنا الفنان وصورته في إطار الصورة الشاملة والمجسّمة للمدينة. وقد تنبه المترجم الأستاذ عبد القادر عبد اللي لهذه الحقيقة فأضاف كلمتي (الذكريات والمدينة) على العنوان الأصلي (اسطنبول) ليوضح للقارئ طبيعة الكتاب وتوجّه الكاتب. نرصد اسطنبول بعيني أورهان باموق الطفل لنعيش معه متعة الاكتشاف الأول للأشياء.. الشغف بالاكتشاف مع ما يستدعيه من فضول وبراءة ودهشة. ولأن أورهان الطفل كان يفصح عن موهبة مبكرة بالرسم فقد طغى حس الفنان على رؤيته، حيث العالم يتجلى بالأسود والأبيض كما لو أننا إزاء شريط سينمائي قديم، أو في فضاء حلم. وباسترساله في تدوين سردية المدينة سينفض باموق الغبار عن بعض من أرشيفها، لا لينقل لنا شيئاً من عبق التاريخ وحسب، وإنما ليعطينا صورة بانورامية مركّبة عنها، هي مجموع ما التقطه بعين الفنان والباحث المدققة. كان في ذهن أورهان الطفل أورهان آخر، التوأم والقرين، المستنسخ الذي يشبهه ويعيش في بيت يشبه البيت الذي يعيش فيه هو، تماماً. وفي زقاق آخر من اسطنبول. وكان يغادر نفسه ليحل محل ذلك الآخر الذي يوفر له فسحة واسعة من الحرية افتقر إليها هو.. ألا يعكس هذا قوة خيال استثنائي وعقل غض لمّاح، وروح متحفزة، تبغي التحرر من إسار المكان ومواضعاته، والانطلاق خارجاً، بكل ما في الخارج من ممكنات ومفاجآت ووعود؟. ولم يكن السبب في هذا الهرب تعاسته الذاتية، مثلما يخبرنا، بل "لأن الحياة، وصالون البيت المتحفي وممراته وسُجّاده (أكره السُجّاد) وجمع الرجال الناضجين الفضوليين لحل الأحاجي الرياضية كانت تبعث على الضيق كثيراً، ثم زيادة الظواهر اللامعنوية، واللاحب، واللاتصوير، واللاأدب (اللاحكائية) (أنكروا هذا مع تقدمهم في السن) وامتلاء البيت بالأغراض وظلمته وبعثه على الضيق". إذن، يحب أورهان باموق مدينته، غير أنه يضيق ذرعاً بها أحياناً.. تُدهشه مناظرها الجميلة والآسرة، وآثارها المعرّضة للتلف والحرائق، وتسبب له الملل أيضاً. وشرطه الإنساني المتبدل، بفعل تبدل الظروف والأحوال يفضي إلى تلوّن مشاعره، وتحولها من السار والمفرح إلى الحزين والكئيب، وبذا يتقلب من الرضا والشاعرية إلى الحنق والغضب والسخرية. لكن، في نهاية المطاف، لا يمكن أن ينجز مثل هذا الكتاب، عن مدينة ما، سوى عاشق كبير لها. يقر باموق بأن الشعور الذي منحته إياه اسطنبول هو الحزن، هذه المدينة التي لا تضاهي، الآن، بأية حال أية مدينة أوربية كبيرة، بعد الهزيمة. وبقي يخيل إليه بأنه يعيش في مدينة ريفية كبيرة وفقيرة، فقدت من جانب آخر تعدديتها اللغوية والعرقية وأيامها المظفرة والطنانة، نتيجة سياسات التعصب القومي.. يقول: "وفرغت المدينة وتحولت إلى مكان خاوٍ أحادي الصوت وأحادي اللغة". فيما التأرجح بين التغريب والحياة التقليدية جعلت من كل شيء في اسطنبول ناقصاً وغير كافٍ وغير مكتمل. لعلّه لهذا سيطرت عليه فكرة ــ مثلما حصل مع بقية الاسطنبوليين ــ بأنه ليس هنا (في مكانه) بالكامل، وليس غريباً فيه بالكامل. لمدة طويلة، رغب أورهان باموق أن يكون رساماً.. هذا الولع جعله يتجول متسكعاً في أحياء اسطنبول وشوارعها وأسواقها وحاناتها وحدائقها ومقابرها، ويمعن النظر في البوسفور (أمواجه وأنواره ومراكبه) فامتلك دقة الملاحظة، والقدرة على تشرّب التفاصيل المرئية وتمثلها. فتكونت عنده ذاكرة بصرية غنية ومرهفة، مفعمة بخيال خلاّق ستعينه فيما بعد حين يودع الرسم ويمتهن الكتابة.. خاض باموق صراعاً ضارياً مع نفسه وعائلته، بالأحرى مع أمه، حول خياراته في الحياة (هل سيكمل دراسته في العمارة ويحصل على الشهادة الجامعية، أم سيتفرغ للرسم؟) وقد حذرته أمه بغضب، وإلى حد الاستفزاز من عواقب أن يصبح رساماً في بلد مثل تركيا لا تقدِّر الفنانين كما هو الأمر في أوروبا، وإنما تستهين بهم وتحقّرهم. وكان هذا الصراع يأخذ شكل شجار يومي فيهرب الشاب ليتسكع في الأزقة شبه المعتمة أو على ضفاف ال

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram