لم يخطر ببالي يوماً أنني سوف أكتب عن المعماري الكبير محمد مكية، ليس لانني لا اعرف قيمة الرجل ومكانته ، بل لأنني اعتقد ان هذه المساحة الصغيرة التي وفرتها لي المدى ، لا يمكن لها ان توفي شخصا بمكانة ومنجز محمد مكية حقه ، فالرجل الذي اصر على ان يكون وجه بغداد الناطق القسمات، الأكثر اجتهادا في رسم ملامح هذه المدينة المحببة الى القلب، يستحق مساحة للكتابة بحجم عشقنا لبغداد.
منذ ان عاد محمد مكية الى بغداد عام 1946 من زمالة دراسية في بريطانيا قرر أن يفعل شيئاً عظيماً لـ بغداد، رافعا شعار فلندعها تزدهر ، كان محمد مكية ومعه رفعت الجادرجي وجواد سليم ويوسف العاني والجواهري وعلي الوردي والقبانجي ومعهم العشرات يملؤون بغداد ومدن العراق، بحضورهم وصخبهم، لم يبق اسم "لامع" إلاّ وأراد أن يضمّ إلى سيرته، منجزا يقدمه الى بغداد. وصار للفن والعمارة متاحف ومسارح ودور سينما، قبل يومين وجه محمد مكية رسالته " اوصيكم ببغداد ": حيث يطلب منا هذا العراقي النبيل ان "استمعوا اليها.. أصغوا الى صوتها كثيرا.. ستكتشفونه في حركة الشجر والنخيل.. في دفق ماء النهر.. في الضحكات الصافية.. تأملوا لونها.. تجدونه في الطابوق.. في الخشب.. في زرقة الماء.. في سمرة الأهل".
لم يكن محمد مكية شاعرا، لكن اعماله أرفع من لغة الشعر والنثر، كل بناء إيقاع ، كل فكرة قصيدة ، كل انحناءة حجر قافية لبيت شعر مميز، ظل يعزف لمدينته عزفا منفردا على الفن وعلى الحياة. عاش في قلب بغداد وطياتها وازقتها ، لم يتنازل من اجلها عن شيء، ولم يساوم معها على شيء، كانت زاده وعدته في مواجهة مصاعب الحياة، تسحره بفوضاها ويومياتها وسرعة تقلباتها من حال إلى حال، كأنها مفكرة اراد ان يكتب على حجارتها احوال هذه البلاد.
تلك كانت مرحلة ازدهار الفن والثقافة في العراق، وبدء عصر النهضة الجديد، في المسرح والأدب والغناء، وقد تصدر محمد مكية ورفاقه بجدارة هذه الحقبة الجميلة والغنية التي عاشتها بغداد في الخمسينات، وعاشها العراق حتى بداية الستينيات. أعذب علاماتها كانت صوت عفيفة اسكندر وناظم الغزالي ، وابرز ملامحها جدارية جواد سليم، ومعمار مكية والجادرجي، وارق صفحاتها قصائد نازك والسياب.
اليوم ونحن نقرأ وصية مكية ننظر الى بغداد وهي تنزلق، نحو عصور الظلاموالعتمة!، الحاكم فيها لا يسمع سوى صوته ، تنزلق نحو كهف، الحقيقة فيه ليست النور بل الظلمة، وأهل الكهف لا ينيرهم الضوء بل يعميهم.. ذات يوم كانت بغداد منارة، تتلاقى فيها الحضارات وتتنافس عليها الأحلام والآمال.. ذلك عصر كان منظروه يريدون لبغداد أن تكون مدينة متعايشة، متسامحة، والأهم مدينة بعبق وألوان لوحات فائق حسن وعطا صبري وفرج عبو، مدينة بألوان من قوس قزح، غنّى بها ولها أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش وفائزة احمد وتوله فيها عشقا القبانجي وسليمة مراد وزكية جورج ولم يكن يدور بخلد هؤلاء ان تتحول المدينة الى مدينة أشباح، يريد القائمون عليها أن يجعلوا منها داراً للآخرة بعد أن كانت حاضرة للدنيا.
ليس كل هذا القحط مسؤولية اهالي بغداد ولا غياب الذوق العام ، ولا انحدار الخطاب السياسي، ولا تسويق الموت واستعراض ميليشيات القتل وجحافل الجهل والسذاجة التي يقودها سياسيو الصدفة وسراق أحلام الناس؟
سيقول البعض لماذا لاتقدمون حلولا بدل أن تنتقدوا ؟ أنا يا سيدي مواطن بسيط أريد حلولاً، وأريد أن أتطلع حولي فأرى رجالاً يحبون بغداد فأحبهم، أتمنى أن أعثر على محمد مكية في سياسيي اليوم، اتمنى ان اجد مسؤولا يصر على صناعة العراق الجميل، المطمئن، وليس عراق الطوائف وفرسان الانتهازية وامراء الحروب،ورافعي شعار "لا مكان للسنة في بغداد " ، واصحاب لافتات : " اطردوا الشيعة لانهم ليسوا عراقيين".
يا سيدي محمد مكية وانت توصينا تذكر ان الأمنيات لا تعيش طويلا، فالظلام له قدرة أقوى على البقاء والإطاحة بالمدن المبنية على أفكار الجمال وأمنيات التسامح، وفيما تريد انت لبغداد ان تتمسك بخيوط المحبة والتسامح، يريد لها حكامها اليوم ان ترتدي السواد لا لشيء، فقط لانها مارست الفرح طويلاً.
ذات زمن تفتحت بغداد على عمارة محمد مكية ، واليوم يريدون لها ان تنام على اعتاب الطائفية والجاهلية .
عذراً محمد مكية.. إنهم يكرهون بغداد
[post-views]
نشر في: 6 إبريل, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
زهير رضوان
سبق لهم أن ريفوا المدينة الجميلة والآن ريفوا السياسة فماذا كنت تنتظر؟
حنا السكران
المدن التركية التي خرجت من اخر انتخابات بلدية بدون اية صورة معلقة مشوهه شكل المدينه , سيارات تحمل صورة المرشح وموسيقى او اغنية وطنية سرعان ما تختفي , اذا كان اللذين يريدون ان يحكموننا يعلنون عن انفسهم بتشويه بغداد بهذه الطريقة المتخلفة فكيف سيكون ادائهم.