لطفية الدليمي كان البابليون يقاضون ملك البلاد كل عام في عيد القراءة خلال احتفالاتهم بالعام الجديد، مابين الأسبوع الأخير من آذار والأسبوع الأول من نيسان. يقرؤون ملحمة الخليقة ويقومون بتنصيب أحد السجناء ملكاً زائفاً لمدة يوم واحد، ويجري الكهنة والعامة محاكمة رمزية ويوقعون القصاص عليه،
بينما يختفي الملك الحقيقي بعيداً عن أنظار الجموع وهي تلقي على الملك المزيف الماء والقمامة وتضربه، اعتقاداً منها أنها تطهّر روح الملك من خطاياه التي اقترفها خلال عامه الفائت ليعود صالحا لحكم البلاد من جديد.. يحاكم في جو طقوسي تهيمن عليه سلطة الكلمة السحرية المدونة شعرا أو نصا أسطورياً، والعامة تصغي، وتردد التلاوة جوقة كورال تصاحب القارئ الرئيسي، وبالكلمة يعاد تشكيل البراءة بعد تطهير الملك من رجس أحكام خاطئة أو جائرة، وبالقراءة تُستفزّ الحياة الراقدة لتقوم من سباتها الشتوي، كناية عن قيامة تموز من موته نصف السنوي. وبالقراءة يبدأ العام الجديد على شعائر الزواج المقدس بين كاهنة تمثل إينانا، ربة الخصوبة، وبين الملك، وتبدأ طقوس الربيع وتعشر المواشي وتزدهر الحقول وتفقس البيوض وينشق طلع النخل وتتفتح براعم الخوخ وزهور التفاح..القراءة فعل رمزي للتطهر مثلما هو الرقص التعبيري الخالص الذي ينفّس فيه الجسد عن احتقاناته متعالياً على ثقل مادته الأرضية وإشكالاتها مع الآخر وتعاليمه وفروضه.. كيف يعتذر المرء للعقل عن انزواء الثقافة والمعرفة أمام مدّ الفن الاستهلاكي والفضائيات التي حلّت محل المدرسة والكتاب والندوة والمحفل الفكري؟؟؟ وكيف نطهر العقل والروح من طوفان الفن التهريجي واللغو السياسي وتصريحات سدنة الجهل وفتاواهم ؟؟ ربما من المستحيل تنفيذ فكرة إيقاف البث التلفزي ليوم واحد، فلا أحد مستعد لتحمّل فداحة الخسارة المادية، ولكن أليس ممكناً إعلان عيد للقراءة، يختار فيه الناس، ولو ليوم واحد، النجاة من سطوة التلفزة والعودة الى سحر التخييل الذي تحققه قراءة كتاب..؟؟؟ في قلب مدريد مقهى شهير واسع يؤمّه المثقفون والفنانون، ويمتاز بهندسته الداخلية الباهرة والتحف الفنية التي تزيّن فضاءاته من منحوتات ولوحات لمشاهير الفنانين الإسبان، وتضيئه ثريات هائلة من الكريستال، وتقدّم القهوة والمشروبات فيه نادلات جميلات وندل مهذبون، ويجلس في أركانه شعراء وكتّاب وفنانون بغرابة أزيائهم، وشعورهم المسترسلة، منغمسون في حوارات أو منشغلون بالكتابة أو مجادلون وكلاء نشر أو منصرفون عن هذا كله إلى مغازلة عابرة أو محاورة سيدة جميلة.. من هذا المقهى تنطلق فعاليات عيد القراءة كل عام في يوم 23 نيسان، يوم ميلاد كاتب اسبانيا الأبهى (سرفانتس)، يحضر أشهر أدباء وشعراء وفناني إسبانيا ويزدحم المكان بعشّاق القراءة ويشرع أحد الكتاب الكبار بقراءة رواية «دون كيخوتة» بأداء درامي ونبرات عذبة والجميع منصتون بإجلال ومتعة الى الرواية. ثم يكمل القراءة فنان شهير وشاعر وممثل، كل يقرأ فصلاً حتى يشارك في القراءة أطفال وشابات وعمال ومغنون شعبيون وراقصات فلامنكو ومطربون كبار وربات بيوت يعشقن دون كيخوتة وعجائز شهدن مآسي ديكتاتورية فرانكو وفقدن أبناءً وعشاقاً وأزواجاً في الحرب. ويقرأ الجمهور، تقرأ بائعة الزهور والنادلات، ويتغيّر الجمهور ويتغيّر القرّاء في هذا المقهى والميدان المجاور، لكن القراءة تتواصل وقد يستمر الاحتفال ستاً وثلاثين ساعة، وأحيانا ثماني وأربعين ساعة، حتى تنتهي الرواية بجزأيها، وتباع مئات الآلاف من نسخها في كل مكان. وهكذا تتكرر قراءة الرواية كل عام لتتعرف إليها أجيال جديدة وقرّاء جدد.. وتقام بالمناسبة معارض للكتاب في القاعات والساحات العامة، مثلما تعرض في حافلات المترو مقاطع من الإصدارات الجديدة فصولا من روايات او قصائد باتفاق تجاري مع دور النشر الكبرى التي تسهم بتمويل شبكات النقل. هل سنرى عيداً للقراءة في بلادنا، تُقرأ فيه كتب مثل "ألف ليلة وليلة" و"كتاب الأغاني" و "كليلة ودمنة" وملحمة "كلكامش" أو "طوق الحمامة" أو "مقامات الحريري" أو "مصنفات الجاحظ" ؟ من يتصدى لإسقاط سلطة الصورة المتلفزة ليوم واحد ويحرّك بحيرة الخيال الراكدة ؟؟ من يجرؤ على إلباس إمبراطور الصورة العاري رداء من حرير الكلمات؟؟ ألا يمكن لمؤسسة ثقافية راسخة كمؤسسة(المدى) ان تتبنى مشروع عيد القراءة احتفاء بالعقل والخيال.؟؟
هل تتبنى المدى عيدا للقراءة؟
نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 03:29 م