محمد سعيد الصكار للشيخوخة مزالق لم تكن تخطر على بالنا يوم كنا بعيدين عنها . وأنا أواجه من هذه المزالق ما يثير الحرج، وخصوصاً ما يتعلق بالشك في كون هذه المادة قد نشرت أم لا، وقد اضطررتُ إلى طي بعض المواد وأنا غير واثق من نشرها . ولكن بعض المواد تناديني أحيانا وتطالبني بنشرها،
ومنها هذه المادة التي عقّبت بها على غياب صديقي الحميم الروائي والقاص المرموق فؤاد التكرلي، فعلى من يكون قد وقف عليها منشورة في وقت سابق أن يغفر لي إعادة نشرها إكراماً لهذه الشخصية الثقافية ذات الحضور الباهر في تاريخنا الثقافي، وتسامحاً مع شيخوختي التي حملتني على أن أضيف سطراً هنا وسطراً هناك، لأوهم القارىء بأن النص جديد عليه ! آخر لقاء لنا كان قبل أشهر في عمان، كان يبدو شديد النحافة، ويتنقّل ببطء بين محبيه، لكن خفة ظله ومزاجه الذي كان رائقاً لم يفارقه، ولم تغادره تلك الحميمية التي يُقبل عليك بها وكأنها شأن يخصك به، فيأخذ حديثكما سياقاً ناعماً هامساً تصدمه لحظات انفعالية خاطفة تزيد من دفء الموقف وحماسته. قال إنه كان يشكو من فقدان الشهية، فعندما يتناول طعامه لا يلبث أن يقذف به بسبب انغلاق موضع في أمعائه يعرقل مرور الأكل إلى الأمعاء، وقد أخضعه ذلك إلى عملية جراحية ثقبت ثقباً في ذلك الموضع من الأمعاء جعل ما يأكله ينساب إلى الأمعاء بسهولة . صار طبيعياً . ليس في هذا ما يثير، ولكن المثير كان في نتائج العملية التي فتحت شهيته إلى الأكل بشكل تحدّث لي عنه بفرح واستغراب، قال إنه لم يعد يلحق بشهيته، وراح يأكل وكأنه لم يذق طعاماً من قبل . وقال إن صحته توازنت وإنه في أحسن حال . فرحت بذلك وهنّأته . ثم كانت لنا أحاديث شتّى، فذلك هو شأننا عندما نلتقي. أطلعته على روايتي الأولى (فصول محذوفة من رواية بتول ) فقرأها في يوم ونصف وأعجب بها وكتب لي عنها وريقة أعتز بها . وفي هذا اللقاء الأخير، دخلنا في الأحوال الخاصة لبعضنا، وكنا نتداول شؤوننا الشخصية وكأننا نتهامس بها، ونصفّي توتراتنا وهمومنا من خلال ما نفصح به لبعضنا. كان قد سمع مني فصولاً عن حياتي الخاصة وملابساتها، وسمعت منه مثل ذلك عن حياته الخاصة خلال لقاءاتنا المتعددة، وخصوصاً لقاؤنا في دمشق، أصغى إلي باهتمام وقال لي بحماس إن في تفاصيل حياتي مادة ثرية لرواية يفكر بكتابتها؛ غمرني الفرح، فأن يكتب سيرتي برواية أمر يحق لي أن أفخر به. ولكن فؤاد رحل فجأة، وأبقاني وحيد همومي التي أبخل بها على سواه؛ فليس كل ما يعتلج في النفس يصلح للحديث مع الناس، ولم يكن فؤاد مثل كل الناس بالنسبة لي، وهو ما أشارت إليه قرينته السيدة رشيدة التركي عندما اتصلت بها معزّياً بعد إذاعة النبأ بوفاته بدقائق، حينما قالت إنه كان يعتبرني أعزّ أصدقائه، وهذا ما أفخر به، وأحتفظ بتفاصيل ما كان يؤثرني به من تفاصيل دقيقة عن حياته الشخصية، مما يمكن أن يضيء بعض حياته ومعالمها. منجزات فؤاد التكرلي الأدبية معروفة وشائعة، وليس من قبيل التوثيق أن أذكر ريادته في فن القصة والرواية في العراق، فقد كان أحد أعمدة هذا الفن إلى جانب عبد الملك نوري ومهدي عيسى الصقر اللذين رسّخا معه معالم الرواية العراقية التي أخذت مدارها المرموق في تاريخ الأدب العراقي، ولكنها لم تبلغ بعدها وتأثيرها في الأدب العربي المناسب، لأسباب لا تغيب عن رأي ناقد باحث متفتح يجعل للمنجزات الثقافية مكانها في دورة الثقافة العربية؛ فهناك الكثير مما لا يلحق بإنجاز فؤاد التكرلي، ويحظى بمثل قيمته، ولكنه يتجاوزه بالإعلان والدعاية والتفخيم التي هي خارج مقاسات الأدب ومنجزاته. فؤاد لؤلؤة في قلادة الأدب العربي تنتظر من يجلوها ويفسح لها مجالاً في التاريخ الأدبي والإبداع الفني. لا يغفل من يتحدث عن فؤاد التكرلي الإشارة إلى لطفه ودماثته وأناقته وصراحته ووعيه ونقده الدقيق النافذ لمظاهر الحياة الثقافية والإجتماعية. يمضي فؤاد محفوفاً بكل القيم الراقية التي حملتها إنجازاته الأدبية وسلوكه الرفيع، وخسارتي فيه خسارة وطن كان ينتظر منه الكثير.
مـزالــق الشيخوخـة وفـؤاد التكـرلـي
نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 03:31 م