أولئك المولعون بالكتب يعرفون مرارة التخلي عن الكتاب اضطراراً.. وكان شارع المتنبي، في تسعينيات الحصار، شاهداً على حكايات مؤسية عن مثقفين جلبوا كتبهم لبيعها على أرصفته، من أجل شراء الطعام لأطفالهم.مرة واحدة حملت كيساً كبيراً مملوءاً بالكتب لبيعها هناك.
أولئك المولعون بالكتب يعرفون مرارة التخلي عن الكتاب اضطراراً.. وكان شارع المتنبي، في تسعينيات الحصار، شاهداً على حكايات مؤسية عن مثقفين جلبوا كتبهم لبيعها على أرصفته، من أجل شراء الطعام لأطفالهم.
مرة واحدة حملت كيساً كبيراً مملوءاً بالكتب لبيعها هناك.. كان ذلك في منتصف التسعينيات.. كنت أحلم بعرض شراء جيد ومبلغ يعينني في تلبية حاجات عائلتي لأيام قليلة.. كنت أبحث عن مشتر منصف.. قلّب أول بائع على الرصيف محتويات كيسي واختار ستة عنوانات.. قال فقط لهذه الكتب سوق، وكان يقصد أن عليها طلباً ويمكن بيعها.. كان من ضمنها نسخة من رواية ( الصخب والعنف ) لوليم فوكنر، الرواية الوحيدة التي قرأتها حتى ذلك الوقت خمس مرات. وكان هو عارضاً نسخة منها بالطبعة نفسها.. سألته بكم تبيع نسختك.. قال بألف دينار.. قلت وبكم تشتري نسختي هذه قال؛ بمائة دينار.. بقيت صافناً في وجهه لا أعرف ماذا أقول.. قال؛ هذه هي السوق، لن يدفع لك أحد سعراً أعلى.. لملمت كتبي وأعدتها إلى الكيس وخرجت من هناك شاعراً بإحباط شديد.. بخيبة أمل جارحة، وبشيء من الإذلال.. وساعتها اتخذت قراري؛ لن أبيع كتبي ما حييت. لكنني، قبل ذلك وبعد ذلك، ومع تقلبات الأحوال والظروف فقدت كتباً كثيرة، مئات وآلاف الكتب.. فمع كل انتقال من دار إلى أخرى كنت أضحي بجزء من كتبي.. أهديها أو أتركها أمانة عند الأصدقاء وأنساها، أو لا أستطيع الرجوع إليها. فضلاً عن كتب يستعيرها بعضهم ولا يعيدونها..
الكتب هي الأخرى كانت ضحية الحروب.. وحين يلحق الدمار بمدينة ما تحترق المكتبات.. في تقرير على إحدى القنوات الفضائية عن لندن في أثناء الحرب العالمية الثانية كانت ثمة بناية مكتبة كبيرة مهدّمة، غير أن بعض أعمدة الرفوف كانت ما تزال واقفة وسط الأنقاض مملوءة بالكتب.. هناك وقف رجال ونساء يقرأون العنوانات ويبحثون في صفوف الكتب ويقلبون الصفحات.. إنهم الممسوسون بالثقافة، عشاق الكتب ينشغلون عن التوجس من الغارة التالية بالبحث عن كتاب للقراءة.
ثمة قصص عن لجوء أمهات وزوجات معتقلين إلى إحراق الكتب الموجودة في مكتبة البيت خشية مداهمات رجال الأمن لبيوتهن بعد عملية الاعتقال.. جرى مثل هذا الأمر في العهد الملكي، ومن ثم بصورة أكبر في العهد الجمهوري اللاحق، حتى وصل الذروة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. وغالباً ما يجري إحراق الكتب كلها الممنوعة منها وغير الممنوعة لاسيما إذا كانت الزوجة أو الأم لا تجيد القراءة. هكذا انتهت مئات آلاف النسخ من أفضل الكتب زاداً للتنانير المشتعلة.
ودائماً نضطر للتخفف من سطوة الكتب على مساحة البيت. ونعرف كيف أن أمهات البيوت يضقن ذرعاً بالكتب التي تزحف سنة بعد أخرى لتحتل مساحات أكبر في الغرف والممرات.. يقول باولو كويلو أن الكتب التي تهدى له هي بمعدل ستين كتاباً في اليوم لكنه الآن لا يحتفظ في مكتبته الشخصية بأكثر من أربعمئة كتاب، طالما أن الكتب التي قرأها في سالف الأيام لن يعود إليها ثانية إذ كم بقي من العمر؟ ولذا من الأفضل التخلص منها.. أعتقد أن قلة منّا يقتنعون بمسوِّغات كويلو ويتخلون عن كتبهم؟
حدثني الناقد الدكتور فاضل التميمي أنه كان مع جمع من أصدقاء وتلامذة المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر في أثناء خروجه من البيت إلى المطار من أجل إجراء تلقي العلاج خارج العراق.. كان ذلك قبل وفاته ببضعة أشهر.. حين غادروا الدار طلب الطاهر العودة إلى الداخل لبضع دقائق، وحين تأخر عليهم دخلوا الدار ثانية فوجوده واقفاً أمام مكتبته يبكي.. يبكي حسرة على كتبه التي يخشى فراقها إلى الأب!